وجوه 9 | بتعرف قصة حارة "وَلَّعَتْ"؟!

  • 0
  • ض
  • ض

هل تعرف أين تقع حارة "وَلَّعَتْ"؟!

■ ■ ■

كنتُ في ذلك الوقت أكافح من أجل الحصول على وظيفة، عبر وسيلتين يقوم بهما أي "خريج مستجد" في قطاع غزة: التدرب في المؤسسات، وتلقي المزيد من الدورات، بهدف تطوير قدراتنا ومعارفنا.

لا داعي طبعاً للقول بأن الجامعات التي نتخرج منها لا تقدم ولا تؤخر ولا تسمن ولا تغني من جوع، وبالتالي فإن السواد الأعظم منا وجد نفسه ينضم ببساطة إلى طوابير البطالة، . كثير منا عمل في مجالات غير مجال دراسته الأصلي. في ذلك الوقت بالذات، تعرفتُ إليه في إحدى الدورات التي تلقيتها عقب انتهاء دراستي الجامعية: كان من خارج مخيمنا، بل في منطقة غالبية سكانها من غير اللاجئين، شرق مدينة غزة.
توطدت الصداقة بيننا إلى حد أننا أمضينا فترة ممتازة سوية نلتقي خلالها في المقاهي، وتبادلنا الزيارات المنزلية والبحث عن الوظائف الشاغرة، أو فرص التدريب في مختلف المؤسسات الإعلامية لاكتساب الخبرة، قبل أن تفرقنا مشاغل الحياة.
ذات مساء صيفي جمعنا على سطح بيته، مع أكواب الشاي بالنعناع الطازج، الذي جلبه من أحواض كانت على السطح. تشعبت بنا الأحاديث بين مختلف المواضيع: من كرة القدم إلى أوضاعنا في قطاع غزة، ومن ثم إلى مشاغلنا العاطفية، ثم ارتفاع تكاليف الزواج وأسعار الذهب! قال لي فجأة: "بتعرف إيش هوه الاسم القديم لحارتنا؟".
-"لا والله. إيش اللي بدو يعرفني؟!".
- "كان اسمها في الزمانات (زمان يعني) حارة "ولعت".. بتعرف ليش سموها هيك؟".
لم أجبه. انتظرتُ أن يجيبني هو. قام بتعديل وضعية الوسائد التي كان يتكئ عليها في جلسته على "الفرشة". أمسك بكوبه، وأخذ رشفة طويلة تلذذ بها، وأنا أتأمله صامتاً. لم أكن مهتماً في الواقع بالمسألة. كنتُ أفكر متململاً: "خلصنا واحكي يا زلمة! على أساس إنو قصة حارتكو أشهر من قصة مسلسل "باب الحارة"! أكيد سموها هيك عشان "طوشة" كبيرة أو حريقة. مش قصة يعني!". لكن جميع توقعاتي كانت مخطئة بالكامل.
قال لي مبتسماً: "يعني ليش ما سألت؟". قلتُ له توقعاتي السابقة بتململ واضح، محاولاً إيجاد "قنطرة" تنقلنا إلى موضوع آخر. قال لي: "غلطان يا صاحبي. قصة حارتنا لما سمعتها من والدي ورجال الحارة الكبار عنا اكتشفت إنها بتلخص قصتنا كلنا. قصة بلدنا".
- "مش فاهم. كيف يعني؟!".
لقد نجح أخيراً في إثارة فضولي. قال لي بعينين باسمتين: "هلقيت بأقولك!".

■ ■ ■

إننا الآن أواخر الثمانينيات. فترة لا تمحى في الذاكرة الجماعية لكل فلسطيني مقيم في قطاع غزة والضفة الغربية: زمن الانتفاضة الأولى، الذي يعتبره كثيرون منا "ذهبياً" بكل المقاييس. زمن "تطبيش الأحجار" على "جيبات الجيش" بأنواعها، "صرصور" و"باور" و"شمار كفول" (حرس الحدود). عرفنا أيامها قنابل الغاز والمطاط لأول مرة في حياتنا، قبل أن تصبح جزءاً من حياتنا اليومية. وقتها كان رصاص المطاط صغيراً ولا يتسبب بأكثر من كدمات، بعكس رصاص المطاط اليوم بشكله الكروي الأسود، المغلف بالمعدن، والذي يتسبب بإصابات بعضها قاتل. زمن منع التجول ليلاً، بل وقد يصبح هذا المنع نهاراً فجأة على منطقة بأكملها إن شاء الحاكم العسكري ذلك، مثلما حدث في منع التجول الشهير لـ"مخيم الشاطئ" في غزة، والذي امتد لأسابيع.
"كان ياما كان": كانت هنالك حارة تقع في حي من الأحياء الشرقية لمدينة غزة، والمطلة مباشرة على شارع "صلاح الدين" الرئيسي، الذي يربط قطاع غزة بأكمله من الشمال إلى الجنوب، ولا يبعد كثيراً عن الحدود الشرقية مع الاحتلال. كان هذا الشارع أساسياً لتنقل العربات العسكرية لجنود الاحتلال، وفي كل مرة كانت تحدث مواجهات ساخنة مع أبناء الحارة وجلهم من البسطاء: يخرجون فيشعلون الإطارات، وتبدأ معركة حامية بينهم وبين الجنود، لينسحب أغلبهم إلى الحارة المزدحمة بالسكان، والتي تجاورت بيوتها وتلاصقت كما تلتصق سمكة سردين بنظيرتها داخل علبة للسمك المحفوظ. من أسماها باسم "ولعت"؟ لا أحد يعلم حقيقة، لكن الجميع يعرف كيف اكتسبت هذا الاسم.
كانت المواجهات بين أبناء الحارة والاحتلال حامية دوماً: تمر العربات العسكرية الإسرائيلية. هوب! تجد العربات نفسها أمام "متاريس" من الأحجار والمخلفات المختلفة. تنشق الأرض عن عشرات الأطفال والشبان من مختلف الأعمار، الذين يرجمون العربات العسكرية بالحجارة وقنابل "المولوتوف". يختفون فجأة كما ظهروا فجأة. لو فر أحد شباب الحارة من الجنود، بعد إحدى معارك "التطبيش بالاحجار"، أو أراد أحد "المطاردين" من الاحتلال الاختباء، فإن كل البيوت مفتوحة له. لو تم اعتقال أحدهم، فإن الحارة بأكملها تتضامن معه ومع أسرته. كانت هذه الحارة، منذ بداية الانتفاضة، مضرب المثل في الوطنية، وكان جنود الاحتلال الموجودون في قطاع غزة يعرفون الحارة باسم شهرتها، الذي أضحى ناراً على علم، كما يلفظونه هم بحروفهم العربية البائسة: "خارة والاآت". كان المرور بحارة "ولعت" كابوساً لكل واحد منهم: تخيل الأعداد الكبيرة من الهاجمين عليهم بالحجارة والقنابل الحارقة، والكمائن والمعارك الملتهبة معهم، وتمكن معظمهم دوماً من الإفلات منهم في أزقة الحارة الضيقة أو التنقل من سطح بيت إلى آخر قفزاً. بدا أن مواجهات جنود الاحتلال مع أهل الحارة لا تتوقف، ومهما اعتقلوا من أهلها ونكلوا بهم، برز كثيرون غيرهم، وكأنهم لا ينفدون أو يملون أبداً! من هنا اكتسبت اسمها، الذي هو كناية عن الاشتعال المستمر.

■ ■ ■

استمرار الحارة في نضالها على مدى شهور طويلة بهذا الشكل، جعلها موضع إكبار وحسد من قبل الحارات المجاورة، إلى أن جاء ذلك اليوم: تفتحت عيون التنظيمات الفلسطينية على إنجازات حارة "ولعت"، وبالتالي جاءت التوجيهات إلى "المسؤولين التنظيميين" لكل حزب وفصيل في الحارة بتنظيم "فعاليات فردية"، من أجل إبراز الدور الفردي للحزب أو الفصيل في "إنجازات الحارة الوطنية". ومنذ ذلك اليوم، بدأت المشاكل. أعني "المشاكل الداخلية" بالطبع: جماعة "أبو فلان"، مسؤول التنظيم "سين" تشاجروا مع جماعة "أبو علان"، مسؤول التنظيم "ًص"، ثم مع "أبو فلتان" مسؤول التنظيم "ع"، وكما يقول أهل غزة: " دَبَّحُوا بعض". وبدلاً من مشاهد المواجهات اليومية مع جنود الاحتلال، صار "كل يوم طوشة شكل الله وكيلكم": أصبح "المشهد الرئيسي" للحارة كل يوم هو تشاجر أبناء التنظيمات مع بعضهم البعض وتناحرهم من أجل إفساد الفعاليات الفردية لكل منهم، والتي كان يسعى كل تنظيم من خلالها إلى كسب معظم أهل الحارة إلى صفه وإبراز أنه "أكثر وطنية" من الآخرين. كان أكثر الأطراف سعادة بالطبع هو الحاكم العسكري لغزة وقتها، والذي دعم توجه جهاز "الشين بيت" ("الشاباك" حالياً، وهو جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي، المسؤول عن الأمن في المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1967) إلى استخدام العملاء في بث المزيد من الفرقة بين أبناء مختلف التنظيمات الفلسطينية هناك. أدى ذلك إلى تبدل الجو التضامني السائد بين أبناء الحارة والذي كان المحرك الأساسي في بناء سُمعتها، وتبدد اللُّحمة والتكافل بينهم.
وفجأة: أصبحت حارة "ولعت" أهدأ حارة في قطاع غزة بأكمله! لا مواجهات مع الاحتلال بتاتاً. "كل واحد في حاله". قليل من الفعاليات الحزبية التي يتم أغلبها خارج الحارة. "وكل سنة وأنتم سالمين"..!

  • من اعمال الفنان البريطاني محمد حمزة

    من اعمال الفنان البريطاني محمد حمزة

0 تعليق

التعليقات