في مخيمنا، وجدتُ الزقاق المؤدي إلى بيت جدتي أم والدي ممتلئاً بالناس الواجمة، مما يعني قطعاً أن هنالك من توفاه الله. كان هذا معناه أن أحدهم توفي، اندفعتُ صارخاً نحو بيت جدتي، الذي كانت تعيش به هي وعمة لم تتزوج بعد، فاتها قطار الزواج.كانت متوعكة مؤخراً، وصحتها على غير ما يرام. بدأت عيناي تمتلئان بالدموع. وجدت أن الناس تتجه إلى بيت آخر في الزقاق. لم تكن هي إذن! اندفعتُ فرحاً إلي غرفتها، منادياً إياهاً بفرح: " ستيييييييييي! ". واجهتني بقامتها الطويلة الممتلئة بالشحوم مندهشة من حضني إياها بقوة، قبل أن تقول لي: " ايش مالك يا بنيي؟! ". لما عرفت بالسبب الذي قلتهُ صراحة، اشتعلت غضباً. قالت لي: " الله يقطع الهبلة وخلفتها! بتفاول علي والا؟! (أي أتتمنى لي الشر؟!) ".
علمتُ فيما بعد أن المتوفى هو أبو خالد رحمة الله عليه..

■ ■ ■


كان كقطرة المطر: لا يعرف الناس من أين أتت بالضبط ولا أين ستذهب- هكذا كان هو

■ ■ ■


كان هذا الرجل استثنائياً. إنه لا يُشبع فضول أحد: لا يعرف أهل مخيمنا من أين جاء وما هي قصته. لقد ظهر بيننا، واستطاع أن يستأجر دكاناً في سوق المخيم، سمحت له مساحتها بجعل الجزء الأكبر منها لبيع وتخزين بضائعه، فيما بقي جزء محدود منها كافياً كي يحوله إلى سكن صغير له، موفراً بذلك إيجار بيت له. لم تكن لكنته فلسطينية-غزية على الأقل. ظهر بيننا، وأثار عاصفة من الأسئلة بلا إجابات. أنتَ تدرك ما هو الوضع في المخيم: الفضول شيء أساسي لسكانه تماماً كالهواء والماء، ويودون أن يعرفوا مختلف تفاصيل حياة كل فرد فيه، أما هو- رحمه الله- فقد كان صموتاً كالقبر. طويل القامة ممتلئها، ذو بشرة سمراء وعينين خضراوين، والغريب في الأمر: شعر الأسود الناعم الكثيف شديد اللمعان، رغم سنه. "هل كان يصبغه؟! ". كان هذا التساؤل موجوداً لدى أهل المخيم، وللمزيد من الدقة: نسائه!
لم يكن يختلط بأحد عامة. لا أحد يعرف عنه أي شيء. لم يكن يتوجه لأحد مساجد المخيم من أجل الصلاة. كما كان مهذباً إلى أبعد حد وأميناً في بيعه وشرائه، مع تشدده بمسألة البيع دَيناً: لم يكن يبيع بالدَّين البتة! حاول البعض معرفة شيء عنه، فكان يجيبهم باقتضاب شديد، أو بنظرات صامتة مهذبة مع ابتسامة باردة. لا شيء أكثر من هذا. مع تتابع السنوات، أصبح الرجل جزءاً من تفاصيل الحياة اليومية لمخيمنا وابتلع الفضوليون أسئلتهم.

■ ■ ■


هل خشي أن يموت قبل أن يعرف أحد قصته؟

■ ■ ■


استأجر أبو خالد أخيراً بيتاً صغيراً مجاوراً لبيت جدتي. لعله مل البقاء في دكانه بكل رائحة العطن في داخله. ومن بيته كانت تفوح رائحة النعناع والريحان وإكليل الجبل، التي كنتُ أشمها كلما بتُ في بيت جدتي. إلى أن جاءت ليلة: أيقظني إحساس لم أدرِ ماهيته. أنصتُ لأجد أنيناً صادراً من بيت "أبو خالد"، ثم صوت سقوط جسد ما. قمتُ من فراشي فزعاً. اندفعتُ نحو الباب أطرقه بقوة. لم يفتح لي أحد. تسلقتُ الحائط، وقفزتُ عن الجانب الآخر، لأجده ممدداً على الأرض. ناديته، حاولتُ إيقاظه فلم يرد. فتحتُ الباب من الداخل، واندفعتُ إلى الغرفة التي كنتُ نائماً بها، لأتصل طالباً تدخلاً طبياً عاجلاً، من خلال هاتفي المحمول. أثار دخول سيارة الإسعاف إلى المخيم الهامد ليلاً أصواتاً كانت كافية لتخرج جدتي وعمتي وجل الجيران مستطلعين المسألة، ومتأملين باستغراب الحمالة وهي تدخل في الزقاق الضيق، لتخرج حاملة جسد أبو خالد الممدد غائباً عن الوعي فوقها.

■ ■ ■


لاحقاً، تولى الجيران إمداد الرجل بالكثير من الأطعمة، مع تطوعي بخدمته في كثير من الأحيان داخل المستشفى، وقد قربتهم من الرجل المُسن الغامض المحنة التي أصابته: أزمة قلبية نجا منها ومن تبعات سقوطه على الأرض بسببها بأعجوبة ما. كان الرجل يتأملني بحنو غريب وأنا أقوم على خدمته، في ظل وقوع الحادث في عطلة الصيف التي لم أكن أدرس خلالها. تمتنت العلاقة بيننا لاحقاً بشكل قوي، وصار يعتبرني بمثابة ابنه. هل كان هذا السبب الذي جعله يأتمنني على ماضيه؟
عاد أبو خالد إلى بيته ودكانه وعالمه المغلق من جديد، وإن أصبح بيننا مساحة من الود، خاصة وأن جدتي وعمتي كانتا ترسلان له الطعام من حين لآخر. ذات يوم، فوجئتُ بأغرب تصرف يقوم به الرجل، ولم يفعله من أي من سكان المخيم سواي. حدقتُ فيه ذاهلاً. قلتُ له مستغرباً: " عفواً ايش قلت؟ ".
- "أنا عازمك يا بنيي على الغدا في بيتي بإذن الله يوم الجمعة الجاية. بتيجي بعد الصلاة ع طول"!

■ ■ ■


استقبلني الرجل كما يليق، وقدم لي طعام الغداء: كانت "بامية" كان قد طهاها هو. كانت ألذ أكلة "بامية" أكلتها في حياتي. أعدها هو بالبندورة الطازجة، وبطريقة طهو ممتازة. لما سألني عن رأيي، فامتدحتُ طبخه، سألني إن كان لدي سجائر. فأخرجت علبتي ماركة "إل أم الأحمر". سحب واحدة منها قبل أن يقول لي في شرود: " قديش هافاني نفسي هلقيت على سيجارة "سومر".."!
"سومر"؟! هل هنالك "ماركة" سجائر في العالم اسمها "سومر"؟! التفت إلي فوجدني مستغرباً. سألني عن السبب، فأبديتُ له استغرابي من اسم "الماركة". قال لي: "هي ماركة سجائر عراقية..".
سحب نفساً من سيجارة أشعلها. يبدو أنه مصر على كسر تعليمات الطبيب الذي أوصاه بالابتعاد عن التدخين! قال لي: "بتعرف أبو نضال؟ ".
"أي أبو نضال فيهم؟ في كذا واحد اسمو أبو نضال في مخيمنا.. ".
ضحك بقوة، قبل أن يقول: "ما كان قصدي على حدا فيهم. قصدي على أبو نضال البنا. صبري البنا.. أنا كنت واحد من رجاله في يوم من الأيام.. ".
يبدو أنا صندوق الأسرار قد بدأ ينفتح أخيراً أمامي! وعلى مدى جلسات مختلفة، تحدث الرجل إلي عن ماضي الغريب.

■ ■ ■


كان فلسطينياً من فلسطينيي العراق، الذين هاجروا إليها عام 1948، وبعد حصوله على الثانوية العامة، انطلق إلى بولندا لدراسة الاقتصاد. ومن ثم ارتكب أكبر خطأ في حياته: انتمى إلى منظمة "أبو نضال" المعروفة أيضاَ باسم "فتح- المجلس الثوري". كان هذا الرجل أحد الأذرع الأمنية للمنظمة، وشاهداً على أكثر صفحات تاريخنا دموية: " بمجرد ما بتفوت التنظيم، بياخدوا منك كل أوراقك وبتوقع على إقرار بتسليم نفسك للتنظيم بالكامل. لفيت مختلف بلدان أوربا الشرقية والدول العربية قبل ما أستقر مع الشباب في معسكر للتنظيم في الصحرا بليبيا.. ".
كان ذلك المعسكر التابع لمنظمة أبو نضال يشهد ممارسات لا تضاهيها إلا ممارسات محاكم التفتيش في العصور الوسطى: " بتصحى الصبح بتلاقي شباب مختفيين. خير ايش في؟ بتكتشف إنو كان مشكوك فيهم وتم تعذيبهم حتى الموت! التعذيب والقتل كان شغال ع الحامي والبارد. والمسخرة في الموضوع إنو اللي بيعذبك كمان يباخدوه وبيتم تعذيبه وقتله. كنا نتشهد على حالنا كل يوم. ما بتعرف ايش بيصير فينا. اللي بيموت، كانوا بيدفنوه على أطراف المعسكر ع السكيت. عشان هيك، لما سكر المعسكر، كل الشباب فرحت واحتفلت. كان يوم عيد إلنا"!
قبيل اغتيال "أبو نضال" الغامض، أسر له أحدهم بأن يهرب لأن التنظيم قرر تصفيته. أخبرني باقتضاب كيف استطاع أن يفر من العراق إلى الأردن بجواز سفر مزور، ومنه إلى مصر، حيثُ بقي هناك إلى أن تم تضييق الخناق عليه، ففر إلى قطاع غزة عبر الأنفاق، بعد خروج الجنود والمستوطنين الإسرائيليين منه، حيثُ قرر أن يستقر بمخيمنا أخيراً.
من أين جلب المال؟ كيف تدبر أمور حياته في مصر وبقية الدول الأخرى؟ ما هي تفاصيل العمليات التي قام بها؟ هذا ما لم يخبرني به أبداً..

■ ■ ■


كانت نهاية أبو خالد تراجيدية بحق: مر يومان عليه لم يفتح دكانه. اشتكى الجيران من رائحة عفنة في البيت: وجدوه مقتولاً. كان مجموعة من اللصوص الذين اعتقدوا وجود مبلغ كبير من المال لديه. انقضوا عليه في بيته وقتلوه، بعدما أوهموه أنهم تجار يريدون بيعه بضاعة بسعر طيب. فتشوا البيت ولم يجدوا أي مبلغ من المال ففروا قبل أن يتم إلقاء القبض عليهم في وقت لاحق. كنتُ الوحيد الذي يعرف قصته، وأحد المقربين جداً له، وبالتالي أشرفت على تكفينه ودفنه مع بعض أهل الخير. كم فيك من الغرائب يا مخيمي! هكذا انتهت حياة هذا الرجل المسن، التي كانت أشبه برحلة غريبة استمرت لعشرات السنين، قبل أن يُدفن في بلاده التي عاد إليها وعاش فيها.. غريباً!