لم يطل رد «كتائب الشهيد عز الدين القسام»، الذراع العكسرية لحركة «حماس» على تهديدات إسرائيل ببدء العملية البرية خلال حرب صيف 2014 على قطاع غزة. «أتهددنا بما ننتظر يا ابن اليهودية؟»، قالها المتحدث باسمها، أبو عبيدة، متحدياً، دالّاً على قبول تحدي المقاومة في غزة، بثلاث عمليات نوعية نُفذت خلال الأيام الثلاثة الأولى من بدء الهجوم البري. قتلت تلك العمليات 12 جندياً، على الأقل. وكانت عملية «موقع أبو مطيبق» العسكري أكثرها إيذاءً. ظهر «جنود القسام» في مقطع فيديو تناقلته الفضائيات وهم يتجولون داخل الموقع بكل أريحية. لكن فجر اليوم التالي (20 تموز) شهد رداً إسرائيلياً عنيفاً: مجزرة في حيّ الشجاعية (شرق غزة) قتل فيها سبعون مدنياً.رغم الفاجعة، كشفت المقاومة عن حدث أمني تعرضت له أولى القوات المتقدمة من الحدود الشرقية للقطاع. احتفل آنذاك عشرات الآلاف من نازحي الشجاعية في مشهد جمع بين الحزن على المجزرة والتشريد، والفرحة بفرج قريب للأسرى: المقاومة تنفذ كميناً محكماً شرق حيّ التفاح قتلت فيه 14 جندياً... وأسرت منهم شاؤول آرون «ذا العينين الزرقاوين».
سرّ تطور المقاومة في حرب 2014 بدأ من نتائج 2008

في السابق، لم تكن الأمور صعبة على الإسرائيلي بهذا النحو. آخر تجارب العدو البرية في حرب 2008 تثبت أن الجيش الإسرائيلي اقتنع بأنه يمكنه أن يدخل أي منطقة يقرر اقتحامها. أيضاً لم تكن الكلفة البشرية لهذا القرار، قبل ست سنوات، باهظة. لكن السؤال عن الإمكانية والتكلفة والنتائج كان حاضراً لدى الإسرائيلي قبل 2014، تحديداً في 2012، حينما قرر في «حرب الأيام الثمانية» ألّا يغامر كثيراً، خاصة أنه وصل إلى رأس القيادي أحمد الجعبري، وحقق هدفه الأول.
لكنّ سر تطور المقاومة في عام 2014 بدأ من نتائج 2008. يشرح مصدر في المقاومة أن أسلوب التعاطي مع الاجتياحات البرية تطور بعد عملية «الرصاص المصبوب». يضيف: «في السابق كان دورنا يستنفد في الساعات الأولى من دخول الجيش الإسرائيلي لأي منطقة، عبر تفجير ما زرعناه من عبوات ثم إطلاق بعض القذائف المضادة للدروع. لم تكن هناك إمكانية لوجستية وتكتيكية للمحافظة على استمرارية استنزاف العدو في الأرض نفسها، أو منع تقدمه أكثر».
تجربة 2008 قدمت تغذية راجعة انعكست على تعديل جوهري في طرق التصدي. مقاومة الدخول البري، ومنع تقطيع أوصال القطاع إلى ثلاث مناطق (الشمال وغزة، الوسطى، خان يونس ورفح)، جعل احتمال إسقاط غزة وإعادة احتلالها شيئاً من ذكرى العسكرية الإسرائيلية. حرب 2014 أصابت، كما حرب لبنان 2006، ثقةَ إسرائيل بمؤسستها العسكرية في مقتل. فبرغم ثبات الطابع الديموغرافي لغزة بين عامي 2008 و 2014، لم يصرِّح أي قائد إسرائيلي خلال الحرب الأخيرة بإمكانية إقدام جيش العدو على احتلال القطاع، أو تقطيع أوصاله، خاصة عبر التوغل في بعض المناطق الرخوة، كمحور «نيتساريم» الفقير بالعمران.
أما أكثر ما أرَّق قيادة العدو، فهو إحصاءات الميدان والمفارقة بين حربي 2008 و 2014. في الأخيرة، استقبل مستشفى «برزيلاي» العسكري في بئر السبع، خلال ثلاثة أيام من بدء العملية البرية ما يزيد على مئة جندي بين قتيل وجريح، مقابل عشرة جنود قتلوا طوال حرب 2008 فقط، وفق الأرقام الإسرائيلية.
السبب في «المقتلة» التي وقع فيها جنود العدو خلال الأيام الأولى من العملية البرية، يرجعه خبير عسكري مقرب من المقاومة، إلى «قصور تقويمات الجيش الإسرائيلي»، الأمر الذي انعكس على التعاطي التقليدي مع ما أعدته المقاومة طوال ست سنوات. «الخطأ»، كما يرى الرجل، أن بدء العملية البرية كان موغلاً في الرتابة لجهة التمهيد الاعتيادي بالنار، ثم التسرع بالتوغل دون امتلاك «محصلة معلوماتية شاملة عن المناطق المستهدفة».
يضيف الرجل: «وجد جنود (لواء) غولاني أنفسهم قد وقعوا في مصائد جُهزت سابقاً، لذلك كان ظاهراً قصور الجيش الإسرائيلي في تحديث معلوماته وأساليبه... بلغت به الثقة بالنفس حد الدخول إلى الأحياء الشرقية من القطاع بناقلات جند قديمة التصفيح، لكن تلك الثقة اصطدمت بإعداد مغاير وأسلوب عسكري لم يعتده الجندي الذي كان قد خاض آخر تجربة برية في غزة عام 2008».
«السيطرة بالنار» حلّت إشكاليتي المناطق الرخوة والساحل

أين كلمة السر؟ اتبعت المقاومة أسلوباً جديداً ونوعياً حافظ على سلامة عناصرها وفاجأ العدو في أكثر من محور، هذا الأسلوب هو الأنفاق، بجميع أنواعها: الصاروخية والدفاعية والهجومية، وأخرى للتنقل ولحماية الشخصيات. تؤكد «كتائب القسام»، في حديث إلى «الأخبار» أنها استطاعت تخطي كل الموانع الأرضية التي كانت تشكل عائقاً في السنوات السابقة. يشرح أبو مصعب، وهو قائد ميداني في الكتائب، أن الأنفاق عالجت الاختلال في توازن القوى، وتغلبت على مشكلة التفوق الجوي للعدو، وأضافت عنصر المباغتة، مثبتةً نجاعتها في جميع المراحل.
بغضّ النظر عن الحديث عن التطور في مجال الإعلام الحربي، تكفلت مقاطع الفيديو المصورة بتجسيد ما كان مجّرداً في السابق (ما بث خلال الحرب وبعدها). فقد عمَّمت تلك المشاهد معاني «القتل من مسافة صفر»، وأظهرت قدر التمكن والتجهيز والانسيابية لدى المقاومة. كذلك بدا أن دخول الجيش الإسرائيلي إلى الشريط الشرقي من القطاع، ضمن بيئة عكفت المقاومة على تجهيزها طوال سنوات، وفّر مجالاً رحباً لمباغتة الجنود من الخلف، عبر مجموعات صغيرة تضرب ثم تعيد تموضعها إلى قواعدها، لتنقضّ عندما تحين فرصة جديدة، وهو ما غيّر قواعد الاشتباك في البر.
إذا كان هذا الحال مع الأحياء السكنية (الكثافة العمرانية)، فماذا عن «المناطق الرخوة»؟ فكرة المقاومة عن هذه المناطق التي تخلو من الكثافة العمرانية تغيرت هي الأخرى. يقول مصدر آخر في المقاومة إن ما كان «ميزة للاحتلال صار فرصة ذهبية للمقاومين، لأن زمن اعتبار المناطق المفتوحة خواصر رخوة صار وراء الظهور».
يشرح الرجل عن نقلة تقنية عاشتها المقاومة في السنوات الأخيرة لجهة التسليح، وكذلك المراقبة والرصد. واليوم صارت أنواع جديدة من الأسلحة تعالج مشكلة تلك المناطق. يواصل المصدر حديثه: «لم يعد سراً أن نتحدث عن امتلاكنا لسلاح الكورنيت الذي لا يمكننا استخدامه إلا في المناطق المفتوحة، وهذا السلاح يجعلنا نسيطر بالنار على المناطق التي يظنها الاحتلال رخوة، فضلاً عن الهاون الدقيق».
أما في جبهة البحر الملتحمة ضمناً بالبر، فقد تكررت المعادلة: شواطئ غزة ليست بوابات دخول. المقاومة انتبهت إلى هذه الجبهة جيداً، وأبدت اهتماماً خاصاً بها منذ بداية الحرب. ففضلاً عن أن عملية «قاعدة زيكيم» الهجومية كشفت عن امتلاك المقاومة «قوة كوماندوز بحرية» مدربة ومجهزة، للمرة الأولى، فإن الأهم هو قدرة الفصائل المسلحة على التصدي للإنزالات البحرية، بالاستفادة من الأدوات نفسها المستخدمة في «المناطق الرخوة»، بجانب الكمائن.
أولى بودار التصدي البحري، التي حرمت الإسرائيلي الاستفادة من 40 كيلومتراً هي طول ساحة غزة، حدثت في منطقة السودانية (شمال القطاع). هناك اشتبك المقاومون مع «قوة كوماندوز إسرائيلية» وأوقعوا فيها خسائر. اعترف الإعلام الإسرائيلي في ذلك اليوم بأن الحدث الأمني كان خطيراً، وأن أربعة جنود أصيبوا في الاشتباك، الذي بدأ بعد منتصف الليل وانتهى مع شروق الشمس.





خيارات إسرائيلية محدودة على الأرض مستقبلاً

لم تعد العملية البرية ميدان إنجاز بالنسبة إلى الجيش الإسرائيلي. في 2014، وبرغم مشاركة 35 ألف جندي بينهم أرفع ألوية جنود النخبة (جفعاتي، وغولاني، ولواء المظليين 85)، لم تنجح تل أبيب في تطبيق أيٍّ من خططها النظرية. هي أولاً عجزت عن بناء منطقة عازلة على الشريط الحدودي لغزة لتكبيل يد المقاومة في إطلاق الصواريخ وقذائف الهاون، وعجزت أيضاً عن السيطرة على التلال المرتفعة التي تشرف على أحياء القطاع، مثل: المنطار وجبل الكاشف وجبل الريس وجبل الصوراني.
انحسر وجود العدو في المناطق السكنية الحدودية لتطبيق هدف عسكري محدود ونسبي القياس لجهة النجاح أو الإخفاق بجانب عوامل المصادفة، ألا وهو تدمير الأنفاق الهجومية تحديداً. فاستغلت المقاومة هذه الخريطة الميدانية الجديدة لاستدراج العدو إلى مصائد داخل الأحياء السكنية القريبة من الشريط الحدودي، وأوقعت فيه أكبر قدر ممكن من الخسائر. أيضاً، لم ينجح سيناريو فصل المناطق الجنوبية عن مدينة غزة (جزأين على الأقل).
برغم أن كلفة العملية البرية على صعيد المدنيين الفلسطينيين كانت باهظة، فإنها شكلت عاملاً محبطاً لإسرائيل. فبعد سنوات من الاستثمار بسلاح الجو، أثبتت حروبها الأخيرة أن العامل الأساسي في حسم المعارك هو البر، لذلك يتحدثون في إسرائيل عن «عمل الجيش لجعل هذه الذراع أكثر فعالية»، فيما على المقلب الآخر، هناك من يجتهد لتكون مقاومته أكثر فعالية وإيلاماً.