تحكي الأمهات لأولادهن قصصا انتشرت عبر الزمن، عن أبطال خارقين وفرسان انتصروا في صراعهم ضد الشرّ. تقصّ الأمهات عادة حكايات عن «سنو وايت» وأقزامها السبعة، وفارسها الذي يُنقذها من الموت، بالإضافة إلى حكايات أخرى متخيّلة أو حقيقيّة نُقلت عبر الزمن. كلّ هذه الروايات ساهمت في تشكيل وعيّ كثيرين. ربما تقال هذه القصص أكثر لمن هم خارج فلسطين؛ نحن تميّزنا في صغرنا أن مثل هذه القصص لا تُحكى لنا.في فلسطين، هناك قصص أخرى غير متخيلة، وغير مأخوذة من الأساطير ولا كتب التاريخ. قصصنا هُنا حقيقيّة، رآها الآباء والأمهات وروتها الجدّات اللواتي كُنّ جزءاً منها.
كان في بيتنا دفترٌ صغير من دفاتر المدرسة، التي نستخدمها يوميّا، ورقه أبيض وعليه أسطر زرقاء اللون، مسطّرة فوق بعضها لتناسب كتابتنا. كنا نحترف تحويل هذا الدفتر من مذكّرة مكتوبة إلى ألبوم صور. كان الدفتر عوضاً عن الكتابة عليه، يمتلئ بصور الشهداء التي نضعها فيه كلّما حصلنا على صورةٍ جديدة لواحد من أولئك الأبطال، خلال مشاركتنا في جنازاتهم.
خلال انتفاضة الأقصى، كانت تخرج المسيرات كلّ يومٍ يسقط فيه شهيد جديد، وكانت المدرسة المنبع الأساسي للمسيرة. خلال الانتفاضة الثانية، كانت الصفوف الأماميّة للتظاهرات، هي مدرستنا وصفّنا. على أبواب المدارس، كانت توزع صور الشهداء الصغيرة ولا يتعدى حجمها حجم كف اليد. كانت مطبوعة على الورق اللاصق كي يسهل نشرها في أيّ مكان.
بعض هذه الصور بيعت لنا الأربع منها بشيكل (نحو ربع دولار)، وبعضها وُزّع مجانًا على الخارجين من المدرسة.
كانت التنظيمات تنشر صور شهدائها للأطفال لتُطبع في ذاكرتهم منذ الصغر، وعلى صفحات دفاترهم المدرسية وكتبهم وطاولاتهم. وكما تُسمى قاعات الدراسة بأسماء مدن وقرى فلسطين المحتلة، سُميت القاعات بأسماء الشهداء لتخليدهم.
لم نعرف الشهداء والعمليات التي نفذوها من الدراسة أو كتب التربية الوطنيّة، إنما علمنا ذلك من «كوميكس» الانتفاضة الذي روته لنا أمهاتنا.
تربى جيل الانتفاضة على بطولات يحيى عياش وعماد عقل. حكوا لنا عن الفارسة ليلى خالد التي خطفت الطائرات. زرعوا فينا قصص أولئك المطاردين الذين اختبأوا في منازل أناس شرفاء لا يعرفونهم.
سمعنا قصصهم كيف خبأوا أسلحتهم في أراضي الأجداد وتحت صناديق الزيتون التي تُعد مع كلّ موسم. كانت هذه القصص هي الأهمّ لنا.
لكننا لم ننتهِ، بل لا يزال لدينا المزيد من الروايات التي سنحكيها لمن سيأتي بعدنا. سنحكي عن محمد عاصي، الذي ظلّ مطاردًا أكثر من عام، ثم وجدوه في مغارةٍ يحاكي قصة الرسول قبل ألفٍ وأربعمئة سنة وأكثر، ولم يشأ أن يموت دون أن يأخذ بثأره وثأر غيره.
سنحكي عن أولئك الأبطال الذين يعيشون بيننا، ونكتشف عظمتهم بعد أن يموتوا، ونكتشف أنّهم شخوص قصصنا التي سنرويها لأطفالنا فيما بعد.
مثل هؤلاء كثر. عرفنا منهم محمد الفقيه، نشأت ملحم، حمزة أبو الهيجا، ومعتز وشحة، وغيرهم من الأبطال من شهداء انتفاضة القدس.
هؤلاء سيتحولون وقوداً لأطفال الانتفاضة المقبلة وستروى قصصهم للأجيال الآتية. كما تأثر هؤلاء الشهداء بحكايات أهلهم عن محمد درّة وفارس عودة، الذي ظلّ واقفًا أمام دبابة ممسكًا بالحجر، سيستوحي الجيل المقبل حكاياتهم.
لكلّ جيل أبطاله وشهداؤه. لكل جيل قصصه التي يرويها لمن بعده. وفي كل جيل، من يسمع هذه القصص ولا يتركها حبيسة غرفته ومخدّته، إنما يحوّلها إلى قصةٍ أخرى تستحقّ أن تُروى في ما بعد.