حينما كنا صغاراً، كنّا نتأمل صورة فيها شخص ملتحٍ جالساً على كرسي، ووراءه في خلفية الصورة شرشف نوم! كنا نراه وحيداً في بعض الصور، وفي أخرى يقبّل يد أمّه. كانت أمي تضع صوره في برواز خشبي، وفي برواز آخر مصنوع من الصوف. حينما بدأنا طفولتنا، كنا نعرفه من الصور، ومن قصص والدتي عنه قبل النوم.في إحدى المرات، استيقظت من النوم قبيل الفجر. وجدتُ أمي تجهز نفسها للخروج من البيت قبل الأذان، لتستطيع اللحاق بحافلة، لأن طريقها طويل كما قالت.
مرّ النهار، عادت أمّي إلى البيت وآثار التعب بادية على وجهها. كنا ننتظرها بشوق لنأخذ حصتنا من الشوكولاتة التي كانت تُحضرها لنا هديّة منه. لا أزال حتى اليوم أذكر طعمها وأتمنى الحصول عليها مجدداً.
في يوم السبت، كانت أمي تنتظر بجانب الهاتف طوال النهار. ربما يحين دورها هذه المرة لتتلقى اتصالاً منه. كنّا بعد حديثها نتكلم معه. اعتاد أن يسألنا عن أخبارنا وأحوالنا، وتفاصيل حياتنا اليومية. كان يوصينا بأمور عدة لا أذكرها.
في بعض الليالي، كانت أمي تخبرنا عنه، وتروي لنا ذكرياتها معه. وفي نهار الجمعة، كانت أحياناً تشغل كاسيت مسجّلا لصوته وهو يقرأ القرآن.
كبرنا ولم تزل الغشاوة عن عيوننا. كانت المسافة أكبر من أن يعيها العقل. قبل عشرة أعوام، استيقظت المدينة على خبرٍ غيّر مسيرة الحياة الهادئة، وغيّر آمال عائلات كثيرة. وبعدما، عاش أهلُ هذه المدينة خمسة أعوام من المفاوضات والدماء، تحققت آمالهم، وفي 18 تشرين الأول (أكتوبر)، كانت قد عاشت غزة "يومًا من أيام الله"، الذي لا تنسى تفاصيله، ولا تُمحى من الذاكرة.
كان يعتلي المنصة رجال كثيرون، وكانت قامتي قصيرة. كنت أقف على الكرسي، أبحث عنه بين الجموع. اختلطت مشاعري بين الفرحة واللاوعي، لكنني لم أجده في تلك اللحظة. 
في اليوم التالي، كانت الأفراح تعم المدينة، وقد أعدّوا ديواناً كبيراً لاستقبال المهنئين. ذهبت معهم، وجاءت تلك اللحظة الفاصلة، حينما رأيتُ ذلك الشخص، الذي كان مجرد صورة في برواز، وصوت عبر سماعة هاتف، وبطل في قصص أمّي.
رأيته شخصاً حقيقياً وقريباً. ترددت في الذهاب لأسلم عليه. كنت أتساءل هل سيعرفني، أم عليّ أن أعرّف عن نفسي. عندما سلمت عليه، قلت له: "حمد لله ع السلامة يا خال"، فردّ علي: "يا هلا بالحبيب".
تلك اللحظة الفارقة بين اللاوعي والوعي، بين العدم والوجود. كنا ننظر إليه كأنه شخص آتٍ من عالم آخر، والآن هو بيننا حيٌ يرزق... من بين سنوات المؤبدات التي لا تعدها أصابع اليد الواحدة، إلى الحرية المطلقة. 
سنحت لي الفرصة أن اقضي عدة أيام وليال برفقته هنا في إسطنبول. قبل مدة، كان يؤمّ بنا في الصلاة، وحين همّ بالقراءة بصوت عالٍ، تناهى إلى سمعي صوته المحبوس في شريط الكاسيت الذي كانت تحتفظ به أمّي. كيف صار حراً، أسمعه الآن، وأراه بأم عيني؟... ها هو اليوم، خرج من ضيق الزنزانة ليتسع البرواز لصورة أخرى معه.