على خلفية العمل الإسرائيلي بقاعدة أن الاتفاق النووي الإيراني قد وقع بصورة أو بأخرى، انقسمت الساحة الإسرائيلية إلى من يرى أن إيران تحوّلت إلى دولة عظمى نووية، فيما وصف آخرون الاتفاق بالخطأ التاريخي. ولكن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، الذي سبق أن اتهم الدول الكبرى بأنها انهارت أمام إيران وتنازلت لها عن خطوطها الحمر المعلنة، اختار توجيه الاتهام بالقول إن «هناك من يريد الاتفاق مع إيران بأي ثمن».
وفي محاولة من إسرائيل لاحتواء المفاعيل الإقليمية والإستراتيجية لهذا الاتفاق، فإنها دخلت مرحلة ما بعد الاتفاق قبل الإعلان عنه، وذلك على المستويات السياسية والإعلامية والأمنية. ولم يبقَ أمام إسرائيل سوى ساحة الكونغرس كملعب وحيد للمواجهة، على أمل أن يساهم ذلك في عرقلة إقرار الاتفاق.
هناك خشية من تراجع قدرة التأثير الإسرائيلية في الأميركيين

لم يكفِ إسرائيل أن الاتفاق بصيغته الحالية يكرّس حقيقة أن إيران انتزعت إقراراً وشرعنة دولية بواقع تحوّلها إلى دولة حافة نووية، بل ما حضر بقوة في الساحة الإسرائيلية، عامة، ولدى نتنياهو خصوصاً، هو أنه في الوقت الذي تجري فيه المفاوضات وعشية الإعلان عن الاتفاق، كان ولا يزال الشعب الإيراني، ومعه مسؤولوه الرسميون يردّدون مواقفهم وشعاراتهم: «الموت لأميركا» و«الموت لإسرائيل».
نتيجة لذلك، كرّر رئيس الحكومة الإسرائيلية التوقف عند هذه القضية، وبعدما تناولها أمام الحكومة، عاد وتوقف عند ما ينطوي عليه هذا التزامن، خلال جلسة كتلة «الليكود». ورأى أن إيران التي تردّد هذه الشعارات تفاوضها الدول العظمى في فيينا وتقدم لها التنازلات. على هذا الصعيد، اتهم نتنياهو هذه الدول، وفي مقدمتها الولايات المتحدة برئاسة باراك أوباما، بأنها تريد اتفاقاً مع إيران، لو «بأي ثمن».
وفي محاولة من نتنياهو للتنصل من إستراتيجيته التي فشلت في تحقيق الحد الأدنى المؤمل إسرائيلياً في مواجهة إيران، فإنه أن إسرائيل «لم تتعهد بالامتناع عن الاتفاق، وبمنع أي اتفاق» مع إيران، متجاهلاً الشروط والسقف الذي كان قد رفعه لهذه المفاوضات، ولم يعن سوى وضع طهران أمام خيار من اثنين: إما الاستسلام، أو إسقاط أي محاولة للاتفاق، ثم بدا أن نتنياهو أدرك أن السيناريو الأول لا ينسجم مع المعادلات الإقليمية والدولية، ولا مع التصميم الإيراني الذي أقرّ به أوباما نفسه مؤكداً أنه لا خيارات بديلة فعلية يمكن أن تحلّ هذه المشكلة سوى التوصل إلى اتفاق يعترف بتحولها إلى دولة نووية.
على ضوء ذلك، لم يعد هناك معنى للشروط التي وضعها نتنياهو، سوى أنها تهدف إلى قطع الطريق على أي اتفاق والدفع نحو مواجهة عسكرية. وكانت حكومته قد اشترطت للاتفاق مع إيران: إخراج مواد اليورانيوم المخصّب كلها من الجمهورية، ومنع التخصيب على الأراضي الإيرانية، وتفكيك منشآتها النووية وتدمير أجهزة الطرد المركزي، ومنعها من مواصلة تطويرها.
لذلك، ادعى نتنياهو أن إسرائيل «التزمت منع إيران من التسلح بأسلحة نووية»، متجاهلاً أيضاً أنه التزم منع امتلاكها القدرة على إنتاج أسلحة نووية، وهي ما باتت عليه الآن، مع الإشارة إلى أن الموقف الرسمي والديني في إيران يرفض بالمطلق إنتاج الأسلحة النووية.
لكن كلام نتنياهو، أتى كمقدمة لادعاء إنجاز وهمي بالقول: «لولا جهودنا، خلال السنوات، لكانت تسلحت إيران بالأسلحة النووية منذ زمن»، وهو بذلك يحاول التغطية على فشل إستراتيجيته لمنع تقدم البرنامج النووي الإيراني، وصولاً إلى تموضع الجمهورية كدولة حافة نووية، ولا سيما أن مواقفه في هذا المجال معلنة وحاضرة بقوة لدى الرأي العام الإسرائيلي.
أما وقد حدث ما حدث، لم يعد أمام نتنياهو سوى تكرار التزامه «منع إيران من امتلاك أسلحة نووية أكثر من أي وقت مضى»، داعياً كل من «يرى في أمن إسرائيل أمراً عزيزاً عليه الوقوف وراء هذا التعهد». مع ذلك، يؤشر هذا التعهد على تراجع في السقف الإسرائيلي، لأنه لم يعد أمام رئيس الحكومة الإسرائيلية سوى تخفيض سقفه إلى التعهد منع إيران من خرق الاتفاق والانطلاق نحو إنتاج أسلحة نووية، وهو ما يتعارض جذرياً مع التوجه والسياسة الرسمية الإيرانية.
في المقابل، يعتبر من ثوابت الإستراتيجية الإسرائيلية، التي طبقتها تل أبيب طوال تاريخها، العمل على منع أي من الدول المعادية من امتلاك قدرات نووية وغير تقليدية. ومن أجل ذلك، شنّت اعتداءات ونفذت عمليات تخريب واغتيال في عدد من الساحات العربية طوال عشرات السنين الماضية.
في الإطار عينه، لم يناور مسؤول الملف النووي لدى الحكومة الإسرائيلية، يوفال شطاينتس، الذي أكد في مقابلة خاصة مع موقع «واللا» العبري، ضمناً، أن إيران ثبتت عند خطوطها الحمر، فيما تراجعت الدول العظمى عمّا أعلنته ولم تتبن المطالب الإسرائيلية، موضحاً أن إسرائيل «طلبت اتفاقاً يتضمن تفكيك وتدمير»، في إشارة إلى تدمير وتكفيك أجهزة الطرد المركزي والمنشآت النووية. لكن الذي حدث وفق شطاينتس، هو أن «الدول العظمى جاءت وقالت إن هذا لن يكون»، وطرحت بديلاً عن المطلب الإسرائيلي، وهو «اتفاق ينطوي على رقابة وتجميد»، مع اعتباره أنه «وفق ما نرى، فإن التجميد لن يكون مطلقاً، وهم سيواصلون تطوير برنامجهم النووي»، مضيفاً أن «الرقابة الثاقبة وغير المسبوقة التي تحدث عن أوباما، تحوّلت إلى نكتة ومهزلة».
كذلك حذر شطاينتس من أن «الرقابة بصيغتها الحالية هي مثل الحجامة للميت»، معتبراً أن الاتفاق مع إيران يسمح لها بإنتاج أسلحة نووية، ومؤكداً أن «هذا الاتفاق يحوّل إيران إلى دولة حافة نووية شرعية». كما لفت إلى أن هذا الأمر «يعني تخلي عن الأمن في العالم من أجل تحقيق إنجاز سياسي آني مشكوك به».
أما عن الخطوات الإسرائيلية المقبلة، فقد زعم شطاينتس أنهم في الولايات المتحدة يعارضون الاتفاق، مضيفاً أن إسرائيل ستحاول التوضيح للكونغرس، بطريقة واحدة وصريحة، وإقناعه بأن هذا الاتفاق سيئ. وأيضا، تحدث عن حراك داخل الولايات المتحدة حول هذا الموضوع، يقوم به صحافيون ومعلّقون وخبراء بدؤوا توجيه الانتقادات إلى الاتفاق. وقال شطاينتس، متوعّداً: «نعرف كيف نؤثر في الرأي العام والإعلام الأميركي، وأنا مقتنع بأن هناك أيضاً شكوكاً كبيرة اتجاه هذا الاتفاق».
في هذا السياق، تحدثت تقارير إسرائيلية عن أنه، خلال الشهر المقبل، ستستقبل إسرائيل بعثتين كبيرتين من نحو 100 مشرّع أميركي، من مجلسي الشيوخ والنواب، يُمثلون الديموقراطيين والمحافظين. ومن المُتوقع أن يلتقي نتنياهو مع كل المُشرعين لإقناعهم بمُعارضة الاتفاق. وتحدثت تقارير أخرى عن أن نتنياهو ينوي التوجه إلى الولايات المتحدة، خلال أيلول المقبل، بهدف تحريض أعضاء الكونغرس على معارضة الاتفاق النووي.
في سياق متصل، حذّر وزير الأمن الإسرائيلي، موشيه يعلون، من أن الدول الكبرى ترتكب خطأً تاريخياً بتوقيع اتفاق سيئ مع إيران، وتقدم تنازلات غير مسبوقة «لنظام ينشر الإرهاب ويهدّد العالم بالحرب». وقال يعلون، أمام لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست، إن الاتفاق النووي مع إيران «سيؤثر أكثر من أي شيء آخر في مكانتنا السياسية والأمنية، لأن الحديث يدور عن اتفاق سيئ يسمح لإيران بأن تكون دولة حافة نووية». لكنه أضاف أنه سيكون لهذا الاتفاق «انعكاسات على دول أخرى ترى في هذا الوضع تهديداً عليها، مثل السعودية ومصر وتركيا»، وتوقف يعلون أيضاً عند حقيقة أن هذا الاتفاق «لن يؤدي في الواقع إلى إغلاق منشأة نووية واحدة أو تدمير جهاز طرد مركزي واحد». كما حذّر من المستقبل الآتي لإسرائيل، مؤكداً أنها ستواصل الاستعداد «للدفاع عن أنفسنا بقدراتنا الذاتية». ورأى أخيراً أن الاتفاق «يبيّض صورة إيران، التي خرقت قرارات مجلس الأمن».
كذلك، اعتبر رئيس حزب «البيت اليهودي»، نفتالي بينيت، أنه في ظل التوصل إلى اتفاق مع إيران «ولدت دولة عظمى إرهابية»، واصفاً المرحلة الحالية بأنها «أيام حاسمة لدولة إسرائيل وللعالم كله». وأشار بينيت إلى أن من أهم ما ينطوي عليه هذا الاتفاق هو أن «دولة تعلن أن هدفها إزالة إسرائيل من الوجود، تحصل على شرعية دولية بأن تكون دولة عظمى نووية».
أما رئيس المعارضة الإسرائيلية، يتسحاق هرتسوغ، فرأى أن «هناك أمراً واضحاً، وهو أن هذا الاتفاق سيسرّع سباق التسلّح الإقليمي ويمكن أن يؤدي إلى تدهور الوضع الأمني للمنطقة، وينعكس سلباً على المصالح الأمنية لإسرائيل. وثانياً، سيمنح هذا الاتفاق الشرعية لتحول إيران إلى دولة حافة نووية في المدى المنظور». أيضاً، فإن رئيس حزب «ييش عتيد» يائير لابيد، المعارض، أشار إلى أن السياسة التي اتبعها نتنياهو إزاء القضية الإيرانية مُنيت بالفشل الذريع، داعياً إياه إلى الاستقالة. ولفت لابيد الانتباه إلى أنه طالما تعهّد نتنياهو لسنوات بمنع التوصل إلى اتفاق، وفي حال تم التوقيع على الاتفاق، «فأنت مسؤول».
وكانت القناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي قد كشفت عن أن نتنياهو وشطاينتس أجريا محادثات هاتفية مع بريطانيا وفرنسا وألمانيا وربما روسيا، تمثل اتصالات اللحظة الأخيرة، في محاولة للتأثير في بنود الاتفاق. وهناك خشية من تراجع قدرة التأثير الإسرائيلية في الأميركيين في هذه المرحلة، إذ يبدو أن الإيرانيين حصلوا على كل ما أرادوه، والكونغرس الأميركي وحده يستطيع توقيف الاتفاق.