سلسلة الممارسات الإسرائيلية الاحتلالية بحق فلسطينيي الـ48 لم تتوقف عند هدم البيوت، ومصادرة الأرض، والعنصرية في الدوائر والمؤسسات الرسمية، ومحاولة أسرلة المجتمع وتشويه هويته، وإنما وصلت إلى درجة الحرمان من أبسط الحقوق الطبيعية وهي حق الحصول على مياه نقية صالحة للشرب.
ما حكاية مياه الجليل الملوّثة؟
تعتبر الينابيع أهم مصادر المياه في منطقة الجليل، حيث تمتاز بغزارة مياهها وبجودتها الكيميائية العالية. السبب في ذلك، يعود بالدرجة الأولى إلى كثرة الأمطار في المنطقة حيث يبلغ المعدل السنوي لكمية المياه في هذه الينابيع حوالى 170 مليون متر مكعب. مع ذلك، فوجئت قرى فلسطينية عدّة في الجليل الأعلى، منذ نحو ستة أشهر، بتغيّر لون مياه الشرب إلى لون أحمر وبني قاتم، مع رائحة كريهة. طاولت المشكلة قرى مجد الكروم، والبعنة ودير الأسد، والمكر، والجديدة، وعلى ما يبدو حُلت المشكلة جزئياً، لتعود إلى الظهور مرّة أخرى منذ شهرين في قرية شعب، وهي مستمرة من دون أي أفق للحل.
وعلى رغم أن قرية شعب تتربع على أكبر تجمّع مياه في فلسطين المحتلة، وتملك عشرة آبار وتسعة وديان أهمها وادي الحلزون، وتعتبر مياهاً ذات جودة عالية كيميائياً، فوجئ السكان هناك بالمشكلة نفسها، إضافة إلى ظهور ديدان سوداء عند فتح صنابير المياه، مع رائحة كريهة. تسبب هذا الأمر بحالات تسمّم عدة، والتهابات جلديّة. ومنذ شهرين، يخوض السكان معركة ضد سلطة المياه وشركة «ميكوروت» الإسرائيليتين، وقد اتهموها بسرقة مياههم وتوزيعها على المستوطنين في «كرمئيل»، و«شوراشيم»، و«جيلون»، وهي مستوطنات أقيمت بعدما صادرت إسرائيل أراضي قرى البعنة، ومجد الكروم، ودير الأسد، وشعب، ونحف عام 1948. وفي المقابل، يحصل الفلسطينيون في شعب على مياه يُعتقد أنها مكررة من مياه آسنة (صرف صحي)!
في خلال تظاهرة ضد سلطة المياه الإسرائيلية ( الاخبار)


«حامية شعب»: الحرب لم تنتهِ
عمر هذا الاسم بعمر النكبة الفلسطينية، فقد أُطلق على رجال ونساء القرية الذين قاوموا العصابات الصهيونية؛ إذ إن المعروف بحسب التوثيقات والكتب التي تحدثت عن نكبة العام 1948، أن شعب صمدت وبقيت نتيجة بسالة أهلها وشجاعتهم. وفي حين هُجر أهالي قرى في الجليل تحديداً نتيجة لقوة السلاح والعنف والأنباء التي وصلتهم حول مجازر العصابات الصهيونية، حكي في كتاب «حامية شعب» (للكاتب الفلسطيني المُهجر إلى لبنان، أحمد حسين) أن أدوار المقاومة توزّعت في القرية بين الرجال والنساء، فالأول أمّن السلاح وقاتل به، والنساء كانت تبيع ذهبها، وتؤمن نقل الطعام إلى الجبهة.
اليوم أيضاً، بقي الجيل الثالث من النكبة على عهد من سبقوه من «الحامية»، هؤلاء يخوضون حرباً من نوع آخر من أجل الحفاظ على آخر ما بقي لهم: شربة الماء! «من بيارنا نعبي جرارنا»، هكذا رفع أهالي قرية شعب شعارهم بوجه سلطات الاحتلال الإسرائيلي، مطالبين بإعادة مياههم المصادرة لمصلحة من احتل أرضهم. وشملت تحركات السكان عشرات التظاهرات كانت آخرها أمام مبنى الكنيست في القدس المحتلة، وأخرى قبل حوالى أسبوع على مدخل مستوطنة «شوراشيم». في المقابل، فرضت اللجنة الشعبية، والمجلس المحلي في القرية عدداً من الإضرابات العامة، طاولت المؤسسات التعليمية والرسمية في البلدة. كذلك، ستُنظم يومي الأربعاء والجمعة المقبلين تظاهرات من أجل الموضوع نفسه.
تلقى المدرّسون الذين شاركوا في الإضرابات تهديدات من وزارة التعليم الإسرائيلية


يشرح عضو اللجنة الشعبية عماد خوالد، أنه في بداية الأمر «فوجئنا بتغير لون المياه، فقمنا بعدد من الاتصالات مع المسؤولين في سلطة المياه وشركة ميكوروت، ليتبين لنا أنهم قاموا بتبديل مصادر المياه التي تصل إلى بيوتنا، من دون تبليغ أحد، أقله المجلس المحلي». ويضيف أنه «عندما سألنا عن السبب رد المسؤولون أن هناك شُحاً في المياه! وطبعاً نحن لا نصدقهم، فقريتنا كانت معروفة باسم بلدة الينابيع لكثرة مصادر المياه فيها». ويتابع: «موقفنا واضح وهو لا تنازل أو تفريط أو مساومة على مياهنا الجوفية. ولن نقبل بأن تصبح مياه قريتنا وينابيعها مجرد قصة نحكيها للأجيال من بعدنا». أما بالنسبة للخطوات التصعيدية، فيشرح أن «اللجنة قد تعود إلى سلاح الإضرابات العامة حتى إذا تطلب الأمر تعطيل المؤسسات التعليمية، ولن نتوانى في النهاية عن تكسير خط المياه الرئيسي، إذا ما بقينا على هذه الحال».
من بين الذين خاضوا الإضراب السابق كانوا معلّمين ومدرّسين، تحدثت «الأخبار» إلى عدد منهم، هؤلاء قالوا إنهم «تلقوا تهديدات من وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية، وتبلغوا برسائل تحذيرية أنهم في حال شاركوا مرّة أخرى في الإضرابات فإن رواتبهم سيطاولها الخصم، أو سيفصلون من وظائفهم».

الأهالي يرفعون المياه الملوثة في زجاجات (الأخبار)

وقال أحد المعلمين (فضل عدم الكشف عن هويته)، إن «سلطات الاحتلال وأذرعها تلاحقنا حتى شربة الماء! وعلى رغم أن الموضوع يهدد سلامتنا الجسدية والصحية، فإنهم يهددوننا بفصلنا من وظائفنا... لم يتبقَّ لنا شيء، ونخشى أن يصادروا الهواء الذي نتنفسه!».
وأوضح علي خوالد، وهو عضو في حركة «أبناء البلد»، وناشط بارز في التحركات في حديثه لـ«الأخبار»، أن «شعب هي قرية موجودة قبل النكبة بكثير، وتعتبر واحدة من أغنى الأراضي مياهاً في فلسطين المحتلة، لا يعقل أن يسلب حقنا في الحصول على ماء نقي صالح للشرب من أجل إعطائه للغرباء الذين أتوا من بعدنا». وأضاف أنه واحد من الذين تعرضوا وما زالوا لقرارات الهدم ومصادرة الأرض، فبعدما «حاولوا مصادرة أرضي، يصادرون اليوم مياهنا التي لوفرتها تستطيع تغذية أكثر من نصف مليون إنسان... بينما عدد السكان في القرية ليس سوى سبعة آلاف نسمة».
مشكلة المياه بنظر السكان سياسية بحت، ولا تختلف عن مسألة مصادرة الأرض والحق الفلسطيني التاريخي في الوجود فيها. «وكأنه لا يكفينا دخول جيش الاحتلال بين الفترة والأخرى إلى قريتنا، بجنوده وآلياته العسكرية من أجل التدريبات والمناورات، بحجة أن تضاريسها تشبه تضاريس جنوب لبنان... أو وكأنه لا تكفينا سرقة أراضينا، وأشجارنا، وتهديد حياتنا وسلامتنا... والآن يسرقون المياه التي نشربها، ويعطونا بدلاً منها مياهاً ملوّثة»، يشرح أحد سكان القرية متحفظاً على ذكر اسمه. ويضيف: «لا أستبعد أن يكون الموضوع ذا صلة بحرب عسكرية مع لبنان يُروّج أنها قريبة... فعندما تُعلن ساعتها قد تُقصف محطات المياه، وتقطع عنّا بينما في المستوطنات من سيقطع مياهاً ممدودة من قلب الأرض عبر شبكة أنابيب عميقة تصل إلى بيوتهم».
أزمة المياه الملوّثة مستمرة منذ شهرين، ما يعني حرمان أهالي القرية من استخدام المياه للشرب، والتنظيف والطبخ. واضطرارهم إلى شراء المياه المعدنية من المحلات التجارية، وتكبدهم نتيجة ذلك خسائر مادية، وهو أمر يخالف القانون الإسرائيلي الذي ينص «على حق المواطن في الحصول على مياه الشرب النقية والصالحة للاستخدام الآدمي من سلطة المياه»، وليس على حساب جيبه الخاص. وبما أن في القرية عدداً من العائلات الفقيرة، نصبت اللجنة الشعبية خيمة اعتصام تبرع بها أهالي القرية الميسورون بالمال لشراء المياه المعدنية، وتوزيعها على من لا يستطيع شراءها.

تظاهرة على مفترق مستوطنة شوراشيم الإسرائيلية (الأخبار)

وفي هذا الصدد، تحدثت «الأخبار» مع المحامية حنان الخطيب، للوقوف على الجوانب القانونية للموضوع؛ حيث قالت إن «تحويل مصدر المياه من مياه جوفيه إلى مياه مكررة من دون إخبار السكان بذلك، هو خرق للقانون». وشرحت أن «الادعاء الذي تقدمت به كل من سلطة المياه وشركة ميكوروت والاتحاد العام للمياه هو إدعاء باطل، فكيف يحصل المستوطنون من حولنا على مياهنا ونحن نحصل على مياه مكررة وملوّثة بسبب شح المياه وقلّة الأمطار؟».
تعرّض عدد من السكان لحالات تسمّم والتهابات جلدية


الخطيب رفعت دعوى قضائية جماعية باسم أهالي القرية ضد إسرائيل وسلطة المياه ووزارة الصحة، وفيها طالبت بتعويض المواطنين نتيجة الأمراض الجلدية والالتهابات التي أصابت عدداً منهم. وكذلك نتيجة لتكبدهم خسائر مادية بسبب شرائهم المياه على حسابهم الخاص.
وقد طالبت الخطيب الاتحاد العام للمياه في شفاعمر، والذي عيّن مديراً يهودياً منذ ثلاثة أشهر، بتزويدها بكافة المحاضر والبروتوكولات التي أعلى أساسها تقرر تزويد شعب بمياه مكررة. ونوّهت إلى أنه «في خلال فترة تنصيب المدير الجديد اتخذ هذا القرار، الذي قد يكون نتيجة لاعتبارات سياسية وعنصرية وانتقاماً من السكان الفلسطينيين... لا سيما أن إسرائيل تتعامل معنا بقانون الحاضر الغائب وتصادر أراضينا وحقوقنا».
صحيح أن بعض الذين يعيشون خارج فلسطين المحتلة قد «يحسدون» أولئك الذين بقوا في أرضهم من السكان الأصليين. السبب ربما هو اعتقادهم بأن الحياة في الأرض المحتلة عام 1948، تشبه إلى حدٍ ما نمط العيش في بلاد أوروبية؛ يُحترم فيها المواطن ويعطى حقوقه، ويمارس حريته على أنواعها. اعتقاد ربما يكون نتيجة لبروباغندا إسرائيلية مورست لعقود من أجل صياغة صورة نمطية، على أساس أنه على رغم كون هؤلاء السكان محتلين «فإنهم يحصلون على حقوقهم» (التي هي ليست منّة من أحد بالمناسبة) ويشاركون في الحياة السياسية عبر الانتخابات، ولهم مقاعد في الكنيست. كل هذا قد يكون «واقعياً» إذا ما دخلنا إلى عمق الحياة المركبة، لنكتشف مظاهر الجحيم الفعلي الذي يعيش فيه هؤلاء... آخره ما حصل مع قرية جليلة صغيرة لا تزال منذ حوالى ثلاثة شهور محرومة من المياه!




وزارة الصحة وسلطة المياه: الكذب هو الحل!
في إعلان مشترك لكل من وزارة الصحة وسلطة المياه الإسرائيليتين، عن ظاهرة المياه الحمراء ادعتا أنه «بعد خمسة فصول شتاء شحيحة، خصوصاً في شمال إسرائيل ومنطقة الجليل، ساءت حالة مصادر المياه في المنطقة للغاية ووصلت مستويات المياه الجوفية إلى أدنى مستوى تاريخي». وأضافتا أنه «نوقش هذا الوضع الاستثنائي في شكل مفصّل خلال اجتماعات لجنة العمليات القطرية في سلطة المياه من أجل منع حدوث ضرر الذي لا يمكن إصلاحه لمصادر المياه».
بناء على ذلك، قررت حرمان قرية شعب من مياهها، مدعيةً أن «المياه الحمراء هي نتيحة لظاهرة تآكل الأنابيب الحديدية (ظاهرة الصدأ)»، زاعمةً أن المشكلة «جمالية». وبعد أخذها عيّنات «تبين أن جميع النتائج سليمة وتفي بمتطلبات أنظمة وزارة الصحة وهي صالحة للاستخدام، بما في ذلك للشرب».
الادعاء الكاذب يبيّن حجم الاستهتار واللامبالاة بصحة الفلسطينيين، لا سيما أن «الأخبار» حصلت على نسخة باللغة العبرية لنتائج فحص المياه، الصادر عن وزارة الصحة الإسرائيلية بتاريخ 15 آذار الجاري، وفيه تبين أن «المياه غير صالحة للشرب ولا للطبخ أو التنظيف ولا تستوفي المعايير والشروط الصحية المتبعة». وقد أُجري الاختبار المذكور على عينات مياه أخذت من المدارس ويستخدمها الطلبة والأساتذة!