في التالي رسالة من الأسير الفلسطيني في سجون الاحتلال عاصم الكعبي في ذكرى اعتقاله الخامس عشر:سنواتٌ تمضي وما زالتْ قيود السجنِ تقفُ حاجزاً بيننا وبينَ الحياة. وحيداً هنا تواجهُ الموتَ بالأمل، ترى الأشياءَ تكبر من حولِكَ وأنت تقفُ محارباً تدافعُ عن معنى وجودِك حين تخوضَ غمارَ المعارك، التي سُرعانَ ما تنتهي من واحدةٍ حتى تجدَ نفسكَ على مشارفِ معركةٍ أخرى، تدافعُ فيها عن اسمكَ وحلمكَ وتبحثُ عن حيزٍ لقدميكَ بين زحام الأحياءْ، تداوي نسيانكَ بالذاكرةِ والحب، حين تكون ذاكرتكَ مفعمةً بأجملِ لحظاتِ حياتكَ ربما في أشدها ألماً، وكلما طالتْ المسافاتُ بُعداً تعتقدْ أن النهايةَ قد اقتربتْ، لكنكَ تتفاجأ بأنها مجرد البداية لطريق آخر يدفعكَ نحو الأمل مرةً أخرى، للمضي قدماً وأنت تبتسم، فلا تعلم ماذا ينتظركَ بعد!!! في السجن للأشياءِ معنى آخر، لحظات تشعر بأنكَ تملكُ الكون، وأن زنزانتكَ أوسع من الدنيا وما حملت، ربما لحصولكَ على إبرةٍ وخيطٍ ، أو ربما لرؤيةِ ذويكَ بعد غيابِ سنواتٍ طوال، والمطلوب منك أن تكثفَ كلَ مشاعركَ وأسئلتكَ وأفراحكَ بـ٤٥ دقيقةً هي مدة الزيارة، أو ربما لحصولكَ على نوعٍ من طعامٍ لم تتذوقهُ منذُ سنواتٍ. أليسَ هذا هو الحرمان؟؟؟
في هذا اليوم الذي أطوي فيه عامي الخامسَ عشر في غياهبِ السجون، وأبدأُ عامي السادسَ عشر، ورغمَ هذهِ السنينَ الطويلة من القهرِ والمعاناة، إلا أنَ هذا العام له رونقٌ خاص يأتي في يومٍ يمتزجُ فيه الفرحُ والحزن، فرحتي التي لا توصفْ لخطبتي على حبيبة القلبْ وقرةُ العين صمود ابنة القائدِ والمعلمِ الذي يحملُ كل معاني الإنسانية والتضحية، أميننا العام أحمد سعدات «أبو غسان»، في هذا اليوم الذي لم يكنْ اختيارهُ عبثاً لعقد قراني، بل هو ذكرى ميلاد صمود التي أقولُ لها في هذهِ المناسبة، كل عامٍ وأنت زهرةٌ تتفتح لأشتمَّ عبيرها في كل مكانْ، كل عامٍ وأنتِ عنوان للصمود والأمل، وحزني لبعدي القسري عنكمْ، وفقداني لأحبةٍ كنت أتمنى وجودَهمْ، ليفرحوا لفرحي، هم الأحبة وأيُّ أحبةٍ همْ مهجة القلب وشرايينُ الحياة، هم الذاكرة المفعمة بالحنانِ والعطاءِ، هم الكبرياءِ والعزةِ ما زالوا حاضرينَ في الذاكرةِ خالدينَ للأبدْ، همْ الملهمونَ لنا في حُلكةِ الليلِة السوداءْ ليكونوا قمراً ونجوماً يضيئون سماءَ حزني وسماءَ الوطنِ الحزينْ.
وخلال كل هذهِ السنوات الطوال، هزمني الموت مرتينْ: مرة لفراقِك يا أمي، فإليكِ يا سيدتي يا سيدة الصبرِ أليكِ أمي الحبيبة أطيرُ أجملَ باقاتِ الورودِ على ثراكِ الطاهرْ، فقلْ لي أيها الموت ماذا أبقيتَ لي؟ لماذا خطفتَ الحُلمَ مني؟ لقد جمعتُ لكِ يا سيدتي في سنواتِ الغيابِ والبعد كل فرحِ الدنيا، كل ابتسامةٍ وكل وفاءِ العالمْ، كي أهديكِ إياها في لحظةِ اللقاءْ، وكنتُ أظن أن الشوقَ سوفَ ينتهي بعدَ الموت، لكنني كمْ كنتُ ساذجاً لأنه على العكسِ تماماً فلقد ازداد أضعاف لكي يا حبيبتي. وأخرى لفراقِ رفيق الدربِ نادرْ، فيا رفيقَ الجرحِ الذي ما زال يكبرْ، ماذا اسميكَ؟ العطاء أم الكبرياء؟ الصفاء أم النقاء؟ قل لي بربكَ يا حبيبَ القلبِ هلْ أستطيع نسيانكَ؟ لا والله فالنسيانُ خيانةٌ والعهدُ بيننا هو الوفاءْ، كنا دوماً نحلُم بأن نحيا كما تحيا شعوب الأرض، لكنهُ الوطن كان له الثمن العظيمُ من دمكَ الطاهر. لقد رحلتَ عنا يا نادر، وتركتَ لنا وطناً تنهشهُ أنياب المنتفعينْ والمتآمرينْ، هؤلاء الذين يبيعونَ ويشترونَ في مصيرِ شعب كامل. آه لو تعلم يا رفيقَ السلاحِ كمْ حالنا صعب، فلقد أضاعونا وتركونا في منتصفِ الطريق. انظرْ إلى آلافِ الشبابِ المكدسينَ على الطرقات، كل شيءٍ ضاقَ بهم وما زالوا يبتسمونَ للمستقبلْ، فهؤلاء المتآمرونَ الذين باعوا ضمائرهمْ يريدونَ جيلاً مسطولاً مهزوماً، لا يفكرَ بأكثرِ من سيجارةِ حشيش، ويريدونَ جيلاً تائهاً مفرغاً من كلِّ قيمِ الشهامةِ والكرامةِ والعزةِ والشرف، جيلاً غيرَ متسامحٍ، يسفك بعضهم دماءَ البعض، ويصبحُ القتلُ أسهلَ الأشياءِ صنعاً. لقدْ نهبوا كلَ شيءٍ ولمْ يتركوا لنا سوى أسماؤنا التي تحملها أجساداً منهكة، تقذفها أمواجَ التعاسةِ في كل مكان.
في هذا اليوم الذي يحملُ الكثيرَ منْ التناقضات، أكتب إلى أحبتي الغالينَ على قلبي: والدي، وشقيقاتي وأشقائي، وأقولُ لكمْ انتمْ الفرحة التي انتظرها يا رفاق الرحلةِ الصعبةِ والشاقة، فما زلنا نتواعد رغمَ كلِ شيء بلحظةِ اللقاءِ والعناق، أنتمْ الأمل الذي أستمدُّ منه البقاءَ والاستمرار، لكمْ مني ألف قبلةٍ، وأنتِ يا حبيبتي الواحدة والوحيدة، يا ظلي الساكن في ربوعِ الحريةِ يا صمودَ الأمل، أيامٌ مرتْ وما بيننا سوى الشوق الملهمْ بلقاءٍ ما زالَ يمتدُّ ليغطي مسافات الانتظار الطويلة، والتي تختصرُ عقوداً وحكاياتْ، أمماً وحضاراتْ، تاريخاً وإرثاً لا تخطه الكلماتْ، بل مشاعر صادقة ولدتْ من رحمِ المعاناة، أرسلُ لكي كلماتي هذهِ التي تحملُ في كلِّ حرفٍ فيها، أملاً ووعداً وشمساً وحلمْ، علها تصلكِ وتتكحلُ في عينيكِ اللامعتين، كوميضِ صبحٍ في خيالِ الظلامْ.
وقبل الختامْ أتوجهُ بالشكرِ الجزيلْ إلى كلِّ من حضر من الأمهات والأخوات والأخوة والرفيقات والرفاق وكل الأصدقاءْ، الذين جاؤوا باسمِ الحريةِ والأملْ، من أجلِ أن يشاركوني فرحي وصمودي، أشكركم جميعاً لتلبيةِ دعوتنا، لأنَّ هذا الفرح هو انتصارٌ آخر على السجانِ، الذي يحاول دائماً أن يقتلَ فينا المشاعر والتواصل الاجتماعي والروح الثائرة فينا، ولكنْ رغمَ كل وسائلِ القمع سننتزعُ الفرح وسنبقى نناضلُ حتى الحرية، لشعبنا العظيم أكتب وإلى كلِّ إنسانٍ حر.
أحبكم جميعاً، أحب هذا الشعب وهذه الأرض، أحبكمْ يا منْ زلتم تخيطونَ فجراً من خيوطِ الصبرِ والصمودْ، فأنتمْ الدليل على أننا ما زلنا أحياءً ولم نمتْ بعد.
التحية كل التحية إلى كل الشهيدات والشهداء والحرية لأسيرات وأسرى الحرية

عشتم وعاشت فلسطين حرة
رفيقكم: عاصم الكعبي «أبو نادر»

سجن النقب الصحراوي
الأسير عاصم الكعبي