مضت الولايات المتحدة الأميركية في ما قررته، ونقلت سفارتها من تل أبيب إلى مدينة القدس المحتلة، وسط صمت خيّم على الضفة المحتلة، ومسيرات محدودة في القدس، لكنّ المشهد على المقلب الآخر في قطاع غزة كان مغايراً. لصمت الضفة قصته الطويلة، ولم يكد يكسره سوى خطاب قصير لرئيس السلطة محمود عباس، المرهق جسدياً والمنتهي مشروعاً، فيما كان الوقت ما بين مطلع كانون الثاني الماضي حتى أمس كفيلاً باستنزاف القوى الشابة في الضفة إصابة واعتقالاً وملاحقة، فضلاً عن أنه لا قرار فتحاوياً بالتصعيد.أما الوجوه الأميركية والإسرائيلية، فظلت مبتسمة في المقر المستحدث على عجل للسفارة، كما لم يخل المشهد من حركات استعراضية وكلمات لكل المسهمين في هذا «الإنجاز»، في حين أن الرئيس دونالد ترامب، صاحب العرض، اكتفى بكلمة مصورة أعاد فيها ترداد ما قاله سابقاً عن أن «القدس هي العاصمة التي أسّسها الشعب اليهودي لنفسه في الماضي السحيق... القدس هي عاصمة إسرائيل، واليوم نفذنا قرار نقل السفارة إلى المدينة».
اقتصر الحفل على كلمات المديح والشكر الإسرائيليين والتأكيد الأميركي للصداقة مع تل أبيب (أ ف ب )

رغم ذلك، فعلت غزة جهدها، إذ انطلقت من الصباح الباكر حشود كبيرة إلى «الحدود»، رغم توغلات إسرائيلية مبكّرة أيضاً كان هدفها إرهاب الناس الذين بدؤوا في حدود الثامنة والنصف يصلون إلى محاور الاشتباكات. وما إن أتمت الساعة العاشرة والنصف صباحاً حتى اشتدت المواجهات في المحاور الساخنة. وفي أول ساعتين، أعلنت وزارة الصحة استشهاد سبعة وإصابة نحو 500 شخص، لكن ما إن بدأت مراسم نقل السفارة الأميركية، في نحو الرابعة عصراً، حتى وصل عدد الشهداء إلى نحو 41، لتختتم الحصيلة الرسمية نحو الثامنة مساء على 55 شهيداً و2771 إصابة بجراح مختلفة، وهو ما يرفع عدد شهداء «مسيرات العودة» إلى 104 من 30 آذار الماضي. لكن من المتوقع أن يزداد عدد الشهداء، في ظل الأنباء عن وجود جثامين لم تسحب من داخل السياج الحدودي.
وبينما كانت محاولات اقتحام الحدود تتوالى، عمل العدو على تكتيك دموي بسحب جنوده والقناصة من أماكن دخول المتظاهرين، ومن ثم إعطاء الأوامر للمدفعية بقصف الحشود، ما أدى إلى وقوع العدد الأكبر من الشهداء والإصابات، لينتقل بعدها القصف المدفعي ليستهدف مخيمات العودة نفسها، وهو ما دفع الوزارة إلى إعلان أن «العدد الكبير من الإصابات فاق قدرات الطواقم الطبية واستعداداتها»، وذلك فضلاً عن استهداف الطواقم الطبية التي ارتقى منها شهيد، إلى جانب قصف خمس سيارات إسعاف، وأيضاً إصابة 12 صحافياً. وشرحت الوزارة في بيان أن من بين الإصابات نحو 54 حالة حرجة جداً، و76 خطيرة، إضافة إلى 1294 متوسطة، فيما كان جزء كبير من الإصابات في المناطق العليا من الجسم، ومن بين هذه الإصابات 1204 إصابات بالرصاص الحي، و133 إصابة بشظايا في الجسم.
ومنذ الظهيرة حتى ساعات المساء الأولى، نقل العدو المعركة إلى داخل القطاع، حينما بدأ شنّ غارات جوية على مواقع التدريب الخاصة بالمقاومة، وذلك في خطوة كبيرة لاستفزاز المقاومة التي كانت قد نشرت عدداً من عناصرها في محاور عدة وأعلنت الاستنفار الكبير في صفوفها، فضلاً عن إسهامها في إسقاط عدد من الطائرات الإسرائيلية المسيّرة التي كانت تلقي قنابل حارقة على «مخيمات العودة».
شهداء أمس أكبر عدد للضحايا في غزة خلال يوم واحد منذ الحرب الأخيرة


بحدود السادسة مساءً، انتهت الاشتباكات بعدما أشيعت أنباء عن طلب فصائلي بسحب الجماهير «حفاظاً على سلامتها»، رغم أن وزارة الداخلية في غزة أصدرت نفياً عن أخبار نقلت عنها أوامر بإخلاء المخيمات. لكنّ مؤتمراً لـ«الهيئة الوطنية العليا لمسيرة العودة وكسر الحصار»، أعلن مساء أمس أنه «آن الأوان لفتح كل الجبهات في الضفة والقدس والتوحد بمشروع كسر صفقة القرن»، فيما توعد القيادي في «حماس»، خليل الحية، في مؤتمر ثانٍ بـ«الرد على مجازر الاحتلال». وبينما لم تعلن أي جهة وقف مسيرات اليوم المتزامنة مع ذكرى النكبة، فإن التشديد كان على يوم الجمعة المقبل، وكذلك الخامس من حزيران المقبل (ذكرى احتلال مدينة القدس). وهكذا، يتوقع أن تتواصل المسيرات اليوم من دون تقدير واضح لوتيرتها، مع إعلان حداد عام ودفن شهداء أمس.
بعد انتهاء المواجهات، أصدر وزير الأمن الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، تعليماته للجيش بمواصلة «سياسة الحزم» التي انتهجها أمس، ومنع أي فلسطيني من اجتياز الحدود، وذلك بعد مشاورات أجراها مع قائد الأركان غادي آيزنكوت، مؤكداً في نهاية المشاورات «حق إسرائيل في الدفاع عن سيادتها ومواطنيها بشتى السبل». مع ذلك، وصفت صحيفة «يديعوت أحرونوت» التظاهرات بأنها «الأشرس والأعنف منذ سنوات»، مشيرة إلى أن عدد الشهداء هو الأعلى في يوم واحد منذ انتهاء الحرب الأخيرة قبل أربع سنوات. وقالت إن عدد المتظاهرين وصل إلى مستويات غير مسبوقة، وقدّرته بأكثر من 40 ألف متظاهر، علماً بأن مصادر محلية فلسطينية قالت إن العدد كان ضعف ذلك مرتين.
في غضون ذلك، هدّد عضو المكتب السياسي لحركة «حماس»، خليل الحية، بتصعيد عسكري تقوده الحركة عبر ذراعها العسكرية «كتائب القسام»، مؤكداً أن «صبر فصائل المقاومة لن يستمر طويلاً في حال استمرار التصعيد الإسرائيلي». وشدد على أن «دماء الشعب الفلسطيني اليوم غسلت عار التطبيع وغسلت عار المساومة وردت على كل من يحاول أن يجعل الاحتلال جزءاً من المنطقة»، مضيفاً: «القدس خط أحمر دونها الرقاب والمهج والدماء، وفي سبيلها ترخص الأرواح وتهون التضحيات ومن أجلها سنواصل المسير». كذلك، قال الحية إن خطوة نقل السفارة الأميركية «اعتداء على حق الشعب الفلسطيني في أرضه وجريمة ضد الإنسانية وضد العالم»، محمّلاً الإدارة الأميركية كل التبعات المترتبة على تنفيذ هذا القرار.
كذلك، أكدت حركة «الجهاد الإسلامي» أنه «لا يمكن أبداً الصمت على ما جرى من عدوان على القدس وما تمثله في ديننا وعقيدتنا، والدماء الزكية التي أريقت لن تذهب هدراً». وأفاد بيان للحركة بأنها «تحمّل كامل المسؤولية للاحتلال عن جريمته وعن عدوانه على المظاهرات الشعبية وعلى المتظاهرين العُزّل في قطاع غزة».
أما «اللجنة التنسيقية العليا لمسيرات العودة»، فأعلنت استمرار المسيرات يومياً، خاصة في أيام الجمعة. وقال القيادي في «الجهاد الإسلامي» خالد البطش، في كلمة عن اللجنة: «مشهد الجماهير بمئات الآلاف نحو السياج الفاصل لهو مشهد عز وفخار سجله هذا الشعب العظيم... هذه الدماء لن تزيد الفلسطينيين إلا إصراراً على استمرار مسيرات العودة حتى كسر الحصار وتحقيق العودة».
من جهة أخرى، قال رئيس «السلطة» محمود عباس، في كلمة مساء أمس، إن «اجتماع اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير سيناقش جملة من القرارات من أجل تنفيذها، وهي القرارات التي اتخذت في المجلسين الوطني والمركزي». وأضاف: «هذا الاجتماع وغيره من الاجتماعات في الأيام المقبلة ستخرج بقرارات واضحة بأمور كثيرة تتعلق بعلاقتنا مع إسرائيل وأمريكا والمؤسسات الدولية»، متابعاً: «السفارة الأمريكية هي بؤرة استيطانية أمريكية في القدس... لن نقبل بأمريكا وسيطاً، وما نريده هو وساطة دولية تأتي من خلال مؤتمر دولي بعدد من دول العالم، وليس من دولة واحدة».
وإلى جانب جملة من الاستنكارات والدعوات إلى عقد اجتماع عربي طارئ وكذلك جلسة لمجلس الأمن، استنكر الاتحاد الأوروبي و«منظمة العفو الدولية» أمس قتل قوات الاحتلال الإسرائيلي المتظاهرين في غزة.
في سياق متصل، أعلن منسّق «القوى الوطنية والاسلامية» وعضو «اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير»، واصل أبو يوسف، أن اليوم (الثلاثاء) سيكون «يوم إضراب شامل في الأراضي الفلسطينية كافة، حداداً على أرواح الشهداء الذين ارتقوا اليوم في غزة»، في إشارة إلى مدن الضفة أيضاً.



حفلة «مجاملات» وشكر
قال رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إن «الرئيس (دونالد) ترامب صنع التاريخ بنقله السفارة (الأميركية)»، شاكراً له «امتلاكه الشجاعة لتنفيذ وعده». وأضاف خلال حفل نقل السفارة في القدس المحتلة أمس، «كلنا ممتنون امتناناً كبيراً لأميركا، وسيكتب هذا اليوم في ذاكرتنا القومية إلى أجيال قادمة. هذا يوم كبير للقدس ولدولة إسرائيل».
وتابع نتنياهو: «اليوم سفارة أقوى دولة على وجه الأرض وأقوى حلفائنا الولايات المتحدة تفتح في هذا المكان، وجنودنا الشجعان يحمون حدود إسرائيل»، في إشارة إلى المجازر على حدود قطاع غزة. أيضاً، امتدح الرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريفلين نظيره ترامب قائلاً إن «الشعب الإسرائيلي لن ينسى هذا الجميل وإيفاءه بالوعد، ووقوفه الحازم خلف المصالح الإسرائيلية».
أما مستشار ترامب، جاريد كوشنر، فقال إن «إسرائيل هي الوصيّ المسؤول عن القدس وكل ما فيها... الولايات المتحدة تقف إلى جانب إسرائيل، لأن هذا هو الأمر الصحيح، وعندما يعد الرئيس ترامب بأمر فإنه ينفّذه».
وعملياً، قاطع 54 سفيراً أجنبياً لدى إسرائيل، من أصل 86 سفيراً، احتفالية وزارة الخارجية لنقل السفارة، ومنهم سفراء روسيا ومصر والهند واليابان والمكسيك. أما المشاركون، فكانوا 32، هم سفراء 4 دول من الاتحاد الأوروبي فقط هي: النمسا والمجر ورومانيا وتشيكيا، إضافة إلى 5 دول أوروبية غير أعضاء في الاتحاد: ألبانيا ومقدونيا وصربيا وأوكرانيا وجورجيا. كما حضر سفراء 12 دول أفريقية هي: أنغولا، والكاميرون، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وجمهورية الكونغو، وكوت ديفوار، وكينيا، وجنوب السودان، وتنزانيا، وإثيوبيا، ونيجيريا، وزامبيا، ورواندا. ومن أميركا الوسطى شارك سفراء 5 دول: جمهورية الدومينيكان، والسلفادور، وغواتيمالا، وبنما، وهندوراس، ومن أميركا الجنوبية شارك سفيرا باراغواي وبيرو فقط. أما من آسيا، فحضر سفراء 4 دول هي: ميانمار والفيليبين وتايلاند وفيتنام.