في سبعينية النكبة، تناقضت الصور على نحو يجزم بامتداد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي إلى عقود أخرى. لا الإسرائيليون بوسعهم ـــ أياً كانت بشاعة المذابح التي يرتكبونها ـــ إنهاء القضية الفلسطينية بإرهاب قتل، أو بصفقة قرن، ولا الفلسطينيين ـــ أياً كانت فواتير الدم التي يبذلونها ـــ بمقدورهم التنازل عن وجودهم نفسه والحق في الحياة بكرامة على ما تبقى من أراضيهم. كانت المذبحة التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية بحق متظاهرين فلسطينيين عزل من أي سلاح في اللحظة نفسها التي كانت تُرفع فيها الأنخاب احتفالاً بافتتاح السفارة الأميركية في القدس المحتلة تعبيراً صريحاً عن الصراع وطبيعته.بقوة الصور غلبت مشاهد الدم أنخاب الاحتفال وأفسدت أيّ رهانات إسرائيلية على دفع دول أخرى إلى نقل سفاراتها إلى القدس المحتلة. بقدر الدماء التي سالت والعذابات الإنسانية التي تبدّت على وجوه الضحايا كسبت القضية الفلسطينية المعركة الأخلاقية أمام العالم كله.
بالأرقام: سقط في المذبحة 61 شهيداً وأصيب نحو 2300 متظاهر سلمي، بعضهم حالته حرجة، بالقرب من السياج العازل. تحت صدمة الصور المروعة لجنود مدجّجين بالسلاح يطلقون الرصاص الحيّ على شبان وشابات شيوخ ونساء وأطفال صغار وصحافيين يتابعون الحدث تبدّت إدانات دولية ارتفع صوتها ودرجة احتجاجها بأكثر ممّا هو معتاد في أيّ انتهاكات إسرائيلية سابقة، حتى وصلت بما يشبه الإجماع إلى طلب تحقيق دولي مستقل. رغم محنة المذبحة، فإن الوصول إلى هذه النقطة من تطور الموقف الدولي الإنساني مسألة تفتح المستقبل على أيّ مدى منظور شرط أن تتوافر إرادة متماسكة يجمع الفلسطينيون عليها وفق برنامج وطني قادر على مواجهة مخاطر استئصال أية حقوق ثابتة.
مثل هذا التطور تعوق استثماره صراعات الفصائل، حتى إنها أصبحت عبئاً لا يطاق على القضية الفلسطينية. جرت دعوات في الضفة الغربية وغزة إلى إضراب شامل واحتجاجات غاضبة على المذبحة، وكانت الاستجابة غير مسبوقة بقوة الغضب العام قبل أي اعتبار آخر منسوب إلى هذا الفصيل أو ذاك.
لم تكن المذبحة الأخيرة حدثاً غير مألوف، أو تطوراً مفاجئاً في مسار الصراع؛ فالعنف من طبيعة نشأة وتكوين الدولة العبرية، التي تأسست في مثل هذه الأيام من عام 1948. نشأت بالسلاح وبقيت بالسلاح وكان السلاح وحده ضمان وجودها. نظرية الأمن الإسرائيلي تأسست على استخدام الحد الأقصى من الترويع والإرهاب وارتكاب المذابح، وأشهرها ما جرى في قرية دير ياسين من تقتيل جماعي لأهلها في 9 نيسان/أبريل من ذلك العام لإرهاب الفلسطينيين ودفعهم إلى مغادرة بيوتهم.
اختلفت التقديرات في أعداد ضحايا مذبحة دير ياسين، أكد بعضها أنهم 360 ضحية، كما لم تكن هناك صور تنقل إلى العالم، لتروي وتشهد وتدين لحظة الحدث الدموي. بعد سبعين سنة تكفّلت الوسائل الحديثة بنقل الصور على الهواء مباشرة إلى كل مدينة وقرية وبيت، وأثبتت من دون ادّعاء عمق المعاناة الفلسطينية كشعب يعاني تمييزاً عنصرياً وترتكب بحقه جرائم ضد الإنسانية.
وفق المنظمات الحقوقية، فإنها جرائم حرب تستدعي المثول أمام المحكمة الجنائية الدولية. بدرجة أقل، أدانت دول أوروبية مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا وبلجيكا ما سمّته «الاستخدام المفرط للقوة»، فيما المواقف العربية بدا بعضها مخجلاً وبعضها الآخر كأنه واجب ثقيل. لماذا ارتكبت المذبحة في سبعينية النكبة أثناء افتتاح السفارة الأميركية في القدس المحتلة؟ هذه رسالة إرهاب وترويع لتثبيت القدس «عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل»، وأنه ليس أمام الفلسطينيين سوى تقبّل «صفقة القرن»، أو «سلام القوة» بكامل الاشتراطات الإسرائيلية؛ فالقدس خارج أي تفاوض، وعودة اللاجئين المنصوص عليها في قرارات دولية مستبعدة، وضمّ الكتل الاستيطانية في الضفة الغربية مسألة منتهية مقابل تبادل أراض تستريح فيه الدولة العبرية من صداع عرب 1948 ودويلة فلسطينية منزوعة السلاح والسيادة ولا اتصال بين أراضيها تخضع بالكامل للهيمنة العسكرية الإسرائيلية.
لا شيء مقابل كل شيء. هذا، بالضبط، هو نوع السلام الذي تحدث عنه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في رسالة مسجلة إلى احتفالية افتتاح سفارة بلاده في القدس المحتلة: «إنّ الولايات المتحدة تظل ملتزمة تماماً تسهيل اتفاق سلام دائم بين الفلسطينيين وإسرائيل، وإن أملنا الأكبر هو السلام».
لا يوجد عاقل واحد في العالم بأسره مستعد أن يصدق مثل هذا الكلام، أو يعتقد أن ترامب يصلح للعب أي دور إيجابي في الملف الفلسطيني، حيث يتماهى مع أكثر المقولات الصهيونية تشدداً.
بتعبير الرئيس الفلسطيني محمود عباس، فإنّ «الولايات المتحدة لم تعد وسيطاً بعد نقل سفارتها إلى القدس المحتلة»، واصفاً السفارة بـ«بؤرة استيطانية أميركية في القدس». بالنظر إلى أنّ عباس هو «عرّاب اتفاقية أوسلو» والرجل الذي راهنت عليه إسرائيل بديلاً من ياسر عرفات شريكاً في السلام، فإنّ أحداً آخر لا يجرؤ على الإقدام على ما يتحرّز منه، حتى «لا أختم حياتي بخيانة»، بنص تصريح معلن.
كان عادياً ومتوقعاً أن يسوّغ رجل بمواصفات ترامب المذبحة بأنّ «من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها». هذه الذريعة انتهاك لأي معنى إنساني، أو أيّ عهود ومواثيق دولية، ولا تصدر إلا عن مجرمي حرب. هنا، بالضبط، جوهر صفقة القرن. باستخفاف مفرط، قالت المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة نيكي هايلي: «إن الإسرائيليين مارسوا ضبط النفس!». كانت تلك محاولة ساذجة لتبرئة القتلة. جرت محاولة أخرى لحرف الانتباه بإلقاء مسؤولية المذبحة على حركة «حماس» التي تحرّض وتتبنّى مسيرات العودة عند السياج العازل مع قطاع غزة. القضية ليست «حماس» بقدر ما هي ظروف لا إنسانية يخضع لها الفلسطينيون في غزة تحت وطأة حصار قاس، وحقوق مشروعة في العودة إلى بيوتهم التي هجروا منها.
هناك استثمار إسرائيلي في الانقسام الفلسطيني، كأنّ اتهام «حماس» يشفع لها بالرضا عند خصومها، وهذا استنتاج متعسف. هناك استثمار ثان لاندفاع دول عربية إلى التطبيع مع إسرائيل سياسياً واستراتيجياً وعسكرياً واقتصادياً في مشروعات تعاون إقليمي، باسم مناهضة «العدو الإيراني المشترك». غير أن لكل شيء طاقته، وقضية القدس بالذات لها رمزيتها التي يستحيل تجاوزها بلا أثمان باهظة. في أيّ متابعة لحركة صور المذبحة على الفضائيات الدولية والإقليمية، لم يكن ممكناً لأحد تجاهل الحدث المروّع ولا ردود فعله، حتى الفضائيات التي تهرول دولها للتطبيع مع إسرائيل وجدت نفسها مدفوعة إلى الإدانة.
الحقائق تقول كلمتها، والحساب الختامي سوف يكون عسيراً.
*كاتب وصحافي مصري