كيف أصبح القطاع الصحي في غزة بعد إحدى عشرة سنة من الحصار المُطبق؟ كيف يتمكن الأطباء هناك من التعامل مع عجز المستشفيات في ظل النقص الحاد بالمعدات والجراحين والأسرّة وغيرها؟ أسئلة كثيرة لا تحصى، ولأجل الجواب عن بعضها، التقت «الأخبار» الطبيب الفلسطيني الأصل، غسان أبو سته، لدى عودته قبل أيام من القطاع
نزهة إسرائيل من تكسير العظام إلى... شل الجسد
في يوم «الاثنين الأحمر»، الموافق 14 أيار الماضي، بلغ القنّاصون الإسرائيليون أعلى مستوى نشوتهم قبل أن يعودوا إلى بيوتهم، ويكملوا لهوهم بهواتفهم النقالة أو يشربوا كأساً في حانة في تل أبيب. في ذلك اليوم، سقط ستون شهيداً، وبلغ عدد الجرحى 3500، بينما كان الفلسطينيون في غزة يحيون «مليونية العودة وكسر الحصار». على الفور، غصّت المستشفيات بأعداد فاقت طاقتها، فوجّه القطاع الصحي نداءه العاجل للمساعدة. وضمن فريق أطباء بلا حدود، وصل رئيس قسم الجراحة في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، غسان أبو سته، إلى غزة. رحلة شاقة وطويلة بدأت منذ عام 1988 ولا تزال مستمرّة حتى اليوم.
كانت البدايات قبل مسيرات العودة بكثير، حيث كان لا يزال شاباً في كليّة الطب في لندن. عاد إلى غزة متطوّعاً ضمن لجان العمل الصحي إبان الانتفاضة الأولى، عام 1988. «حينها، بدأت اللجان الصحية والمنظمات الأهلية بالتشكّل، كنوع من رد الفعل المجتمعي وكجزء من استراتيجية الانتفاضة ــ التي أنهتها السلطة الفلسطينية باتفاقية أوسلو عام 1994».
الحروب، وفق رأي «الحكيم»، «لا تهدف دائماً إلى القتل»، والدليل على ذلك هو ما استخلصه من تجربة مع نوع الإصابات وتطوّرها؛ فمثلاً «خلال الانتفاضة الأولى، كان الهدف هو التكسير، ولأجل تحقيقه استخدم الجيش الإسرائيلي العصي الحديدية. كنّا نتعامل كأطباء ومتطوّعين، مع كسور في السيقان والأيدي والرؤوس والأظهر... لاحقاً خلال الانتفاضة الثانية عام 2000 كانت الإصابات معظمها بالطلق الناري الحي، هنا كان جزء من الهدف هو القتل. ثم بدأت الحروب الفعليّة بالقصف المدفعي جواً وبراً وبحراً. عام 2008 ثم 2012 و2014... هكذا بتنا نتحدث عن عمارة تهوي فوق رؤوس أصحابها بفعل صواريخ محمّلة بأطنان من المتفجرات».
لكن ماذا الآن؟ «كل شيء اختلف»، يجيب أبو سته، موضحاً أن «هدف إسرائيل من قمع مسيرات العودة، وفك الحصار، هو الشلل». وهذا يعني بالنتيجة «شل حركة المتظاهرين التي بدونها لن يستطيعوا تحقيق أي معنى من التظاهر. فالعودة تكون بحركة هؤلاء وقطعهم السياج من أجل الدخول إلى أراضيهم التي منها هُجّر أجدادهم. أمّا إنهاء الحصار، فهو معنوياً بالخروج مشياً من السجن الكبير إلى الحريّة».
طبياً، يعني ذلك «إحداث ضرر بأجهزة وأعضاء الجسم وتركها مشلولة. وبذلك، تصبح عائلة الجريح أيضاً مشلولة؛ إذ على عاتقها تقع مسؤولية العناية بابنها على حساب التفاصيل الحياتية اليومية الأخرى. كذلك، فإن الهدف هو إحداث شلل في جسد القطاع الصحي الذي بات يتكدس بالجرحى إلى حد ما فوق الإشباع».
غصّت المستشفيات بأعداد فاقت طاقتها فوجّه القطاع الصحي نداءه العاجل للمساعدة (إي بي إيه)

«مختبر غزة» لتجريب السلاح: جلادون بشهادة جامعية
في الثلاثين من آذار الماضي، بدأ الجيش الإسرائيلي في استخدام نوع جديد من الطائرات من دون طيار (drones). هذه الأخيرة، طوّرها علماء وخبراء الأسلحة الإسرائيليون من طائرات صغيرة تملك أربعة أجنحة، كانت مُعدّة في الأساس لأجل التصوير والتجسس، لتصبح طائرات بمقدورها قذف مئتي قنبلة غاز. لكن الهدف من ذلك ليس تماماً تفرقة المتظاهرين وفضّ تظاهراتهم، وإنما هو، بحسب أبو سته، «الماركيتنغ! فبعد وقت قليل، سنرى هذه الطائرات في دول أخرى، وسيحدث ذلك بعدما تنهي إسرائيل تجربتها على الفلسطينيين في مختبر غزة... تماماً كما حصل من قبل. سنرى تجّار الأسلحة من مئة دولة يتجمهرون حول الطائرة المعروضة في معرض الأسلحة الإسرائيلي السنوي».
إذاً هي قنابل غاز... ولكن ليس غازاً مسيلاً للدموع يمكن التصرّف معه بقطعة بصل أو رشة سبيرتو. في الحقيقة هو أخطر من ذلك بكثير، فبحسب الإصابات التي تعامل معها «الحكيم» خلال وجوده في غزة، تبيّن أن «ما تُلقيه هذه الطائرات هو عبارة عن غاز أعصاب. تطلّب منّا إعطاء المصابين أدوية من فئة فاليوم، لوقف التشنّجات العصبية التي كانت تستمر لساعات وتحجز لمصابيها أسرّة نحن بحاجة إليها لإجراء عمليات جراحية طارئة». بالإضافة إلى ذلك، يشير الطبيب إلى أن هذه القنابل لم تُلقَ فقط على المتظاهرين، وإنما «في نقاط التثبيت الطبية المنصوبة بالقرب من نقاط التماس لمعالجة الجرحى، الأمر الذي دفع المسعفين أكثر من مرّة إلى تغيير مواقعهم».

مقدح في غرف العمليات!
«انهيار القطاع الصحي في غزة». عنوان طالما كرّرته وسائل الإعلام، ولم تُجدِ لأجل فهمه صرخات المتحدث باسم وزارة الصحة في غزة... ولكن ماذا يعني ذلك بالتحديد؟
يجيب الدكتور أنه «عندما يصبح عدد الشهداء ستين شهيداً، و3500 جريح، في غضون 4 ساعات من مسيرة العودة، يعني ذلك، وفق عملية حسابية بسيطة، رقماً بأضعاف مضاعفة عن ضحايا الحرب (إذا ما قيست بالوقت). لأجل هؤلاء، نحن بحاجة الى عمليات جراحية طارئة وهي عمليات معقدة، ومركبة ومتسلسلة. ولتنفيذها نحن بحاجة الى جراحين، في حين أن عدد الجراحين الموجود في غزة هو أقل من عدد العمليات، وهذا يُساق على عدد الأسرّة والمعدات وغيرها».
يتابع: «في غزة منذ ستة أسابيع، لم تستقبل المستشفيات أي حالة مرضية عادية (مثل السرطان، الأمراض الباطنية وغيرها)». والسبب هو أن «جميع الأسرّة في المسشتفيات محجوزة للجرحى والمصابين، ناهيك عن عشرات من هؤلاء هم في حالة موت سريري». بالإضافة إلى ذلك، فإن القطاع الصحّي يعاني بفعل الحصار من فقدان 60 في المئة من مخزون الأدوية والمعدات الطبية، وبالتالي نحن نعالج المصابين حالياً بمخزون متهلهل أساساً».
هذا ليس كل شيء، فمثلاً «هناك معدات طبية تنتهي صلاحية استخدامها عند إجراء عدد معيّن من العمليات الجراحية، وأقصد المشارط والمقصات وغيرها من الأدوات... في غزة منذ 2014 هذه المعدات فقدت صلاحيتها، ولكن لا يوجد أمامنا خيار آخر غير إعادة استعمال آلات منتهية الصلاحية منذ أربع سنوات!».
عندما يصبح عدد الشهداء ستين شهيداً و3500 جريح في غضون 4 ساعات يعني ذلك رقماً بأضعاف مضاعفة عن ضحايا الحرب(أ ف ب )

أمّا ما يمكن أن يتسبب في «جلطة» فعليّة، فهو حديث الدكتور عن المقدح (drill): «لأجراء عملية جراحية، يتطلّب منّا وضع مثبتات بلاتينية في جسد المصاب، هذه المثبّتات تكلّف لكل شخص بحد أدنى 1500 دولار. ولأجل تثبيتها، نحتاج إلى مقدح طبي، وبما أنه لا يوجد مقدح طبي في المستشفيات بفعل الحصار، فإننا نضطر إلى شراء مقدح تجاري (خربر) من السوق، يكلّف الواحد منه مئة دولار. وطبعاً هذا النوع سريع الصدأ، وكلّما صدئ أحدها نشتري آخر... وهكذا دواليك».
ماذا عن حملة الإغاثة التي تنظّمونها لأجل «مستشفى العودة»؟ يشرح الدكتور أن «مستشفى العودة أقامته جمعية أهلية في قلب مخيم جباليا، وهو تابع للجان العمل الصحي. ميزته أنه قريب من نقاط الاشتباك مع الجيش الإسرائيلي. يعاني المستشفى نقصاً كبيراً في المعدات الطبية، ناهيك عن أن الأطباء فيه لم يقبضوا رواتبهم منذ حوالى سنة ونصف سنة. حملة التبرعات يجب أن تجمع مئة وخمسين ألف دولار أميركي. وبتقديري هذا المبلغ كافٍ للنهوض بالمستشفى، وتخفيف العبء عن مستشفى الشفاء».

غزة تعيش «الساعات الخمس» الأخيرة
كيف تقوّم الوضع الإنساني عامةً هناك؟ يستوقفه مشهد تذكره من رحلته الأخيرة إلى غزة: سوق الشجاعية. يشرح: «السوق الأفقر على الإطلاق... كان شارع عمر المختار ــ الشارع الذي طالما عجّ بالناس ــ خالياً، يصفّر... كانت تلك الليلة الأولى من ليالي شهر رمضان... الناس ما معها تاكل، لا الفقير ولا الميسور... واللي بيشتغل بيقبضش. أمّا الكورنيش البحري، فلم يعد المشي فيه لطيفاً، فرائحة المجارير المنتشرة تشير إلى موعد اقتراب فصل الكوليرا!». أمّا بالنسبة إلى الأطفال، «فهناك أكثر من خمسين في المئة منهم يعانون من نقص التغذية، وهو ما يؤثر مباشرة على نموهم. ولا يُغفل أن 14 ألف إنسان في غزة يعانون من مرض السرطان، وهؤلاء لا يستطيعون الخروج من القطاع لإجل العلاج (بسبب الحصار)، فضلاً عن أن إسرائيل لا تسمح بإدخال المعدات الطبية اللازمة لعلاجهم، مثل آلات العلاج بأشعة الراديو، أو العلاج الكيميائي».