جنود «الملاك» في «لعبة الحرب»إنه فجر الخميس الواقع فيه التاسع من آب/ أغسطس 2018. طائرة إسرائيلية عملاقة، من طراز «إف ستة عشر»، تحلّق فوق ذلك المنزل المنكوب في منطقة الجعفراوي في مدينة غزة. الطيّار الإسرائيلي لا يعدو كونه في نزهة أو «لعبة حرب» إلكترونية، فهو بينما يقود الطائرة، يتناول «صندويشة» مؤلفة من قطعتي خبز العسكر (الاسم الدارج للتوست إسرائيلياً)، بينهما شريحة من الحبش المُدخن وأوراق نبتة الخس، ومسحة من صلصلة الخردل. يلتهم... ويلتهم. وبينما هو يفعل ذلك، تستمر عيناه في متابعة ما تنقله الكاميرا على الشاشة أمامه. الكاميرا ذات «العين السابعة» أو «عين الإله رَ»، والتي تستطيع أن تخترق، بواسطة الأشعة فوق بنفسجية، جدران المنزل الفلسطيني المنكوب.
وبينما هو يتابع ــــــ على الشاشة أمامه ــــــ حركات جسد الطفلة بيان (سنة ونصف)، ويرى أنها تحضن والدتها إيناس، محاولةً أن تجد مكاناً لتخفي رأسها في حضن الأم إلى جانب أخيها الجنين الذي لم يولد بعد وعمره تسعة أشهر في الأزل، ثم يرى الطيّار الإسرائيلي الأب محمد الخمّاش، الذي يردّد آيات قرآنية، بينما التفّت ذراعاه حول جسد زوجته وطفليه، أحدهما لم يولد بعد.
يتابع الطيّار... و«عين الإله رَ» تنقل له، وتؤكد له، وتقسم له، أنها لم تجد رصاصة واحدة في هذا المنزل المنكوب. وأنها لم تجد حتى مسدساً بلاستيكياً يقذف الماء بين دمى تلك الطفلة، لكن الطيّار لا يقتنع. ويفكر بذلك البطن المنتفخ والجنين الذي في داخله، ويقرّر أن هؤلاء يستحقّون الموت. ومن بينهم حتى هذا الجنين الذي لم يولد بعد، ولم يعطِه أحد اسماً، ولم يلعب، ولم يحكِ، ولم يمشِ، ولم تنبت أسنانه على تلك «النيرة» الطريّة... كل هؤلاء يجب أن يموتوا، لأنهم كما فكّر الطيار الإسرائيلي طبعاً، ما زالوا، رغم كل هذا البؤس، يصارعون ويتشبثّون بالحياة... لا والأفظع أنهم يريدون أن تستمرّ هذه الحياة بواسطة ذلك الطفل الذي لم يولد بعد!
وعندما ينتهي الطيّار الإسرائيلي ــــــ وهو أحد جنود «ملاك الموت» على الأرض ــــــ من التهام «صندويشة» خبز العسكر، يتثاءب متململاً. ثم يفتح تلك الدائرة الذهبية التي تتدلى من عقد في عنقه، مؤطرة صورة لزوجته وابنه، اللذين ينعمان بفضل «القبة الحديدية» والملجأ العمومي، بأفضل وسائل الراحة والهدوء. يقبّلهما (يقبل صورتهما) ويتمنّى لهما ليلة سعيدة.
تعود عينيه إلى الشاشة، وبفضل عين «الإله رَ» التي على ما يبدو لها أذنان أيضاً، تنقل بهما ذبذبات الصراخ والعويل والترجّي التي تطلقها تلك الأم المسكينة، تلمح عينه عقداً من الورود معلقاً على مرآة داخل الغرفة الزوجية. ثم يتساءل: «ماذا؟ لديهم عقد من الورود؟ هل يتنزّهون ويعيشون حياة عادية مثل باقي البشر الذين لديهم كهرباء وماء وبقيّة مقومات الحياة البشرية؟ هل يتمشّون على الكورنيش البحري؟». ثم، وبقوة، وبسلطة «ملاك الموت»، وباسم بطل العبرانيين شمشون، يردّد تلك الآية في سفر القضاة من العهد القديم: «فها أنك تحبلين وتلدين ابناً ولا يعل موسى رأسه لأن الصبي يكون نذيراً لله من البطن وهو يبدأ يخلص إسرائيل من يد الفلستيُّون». وبعدما انتهى من القول، يضع سبابته على زر الإطلاق، فيخرج صوت هائل يتبعه ارتجاج عنيف وتكّسر، ثم يشاهد عبر عين «الإله رَ» - عندما ينقشع الضوء الأحمر ــــــ البيت الفلسطيني المنكوب وقد بدأت جدرانه تتطاير.

ما قبل «اللعبة»
في يوم من الأيام، قبل أن تبدأ «لعبة الحرب» بأربعة أيام بالضبط، كانت هناك امرأة فلسطينية اسمها إيناس خمّاش. وكان عمرها 23 عاماً. لكنها رغم صغر سنّها، ورغم أنها أيضاً حامل بشهرها التاسع، وأم لطفلة عمرها عام ونصف... كانت قد أنهت جميع أعمال المنزل في وقت مبكر قبل الساعة الثانية عشرة ظهراً. وقد راحت تتمشى في أروقة منزلها في حي الجعفراوي في مدينة غزة، ثم لسبب ما ــــــ لن يعرفه أحد ــــــ قررت أن تُدوّن على صفحتها الشخصية في موقع «فايسبوك» ما يلي: «إن كان لي أَن أَكونَ شيئاً لك، لكنت نبضاً وعافيةً لا تفارق قلبك أبداً»، وقد وضعت إشارة إلى أن ما دونته للتوّ، إنّما هو موجه إلى زوجها، محمد الخماش. والأخير، يرقد الآن في غرفة العناية المكثفة في المستشفى بعدما أصيب نتيجة القصف الإسرائيلي، وبفضل ذلك النبض ــــــ الذي تكونه زوجته الآن ــــــ ربما «ينجو» ويستمر في الحياة.
ولسبب ما أيضاً لن يعرفه أحد، كانت إيناس قد كتبت «لا تجعلوا شيئاً تافهاً يكدّر حياتكم، فالدنيا إلى زوال.. عيشوا أيامكم بنكهة الحب والفرح.. وارسمو على محياكم ابتسامة الأمل». أمّا لطفلتها بيان، ذات العينين السوداوين بشدة، وذات المحيا الضحوك في جميع الصور، فقد كانت ماما إيناس قد كتبت عنها كثيراً في صفحتها على ذلك الموقع الإلكتروني. وفي يوم 23 آذار الماضي، كانت قد طلبت منها عبر منشور على صفحتها ما يلي: «كوني بقربي دائماً خففي من ضجيج الحياة بصوتك أخبريني أنه لا شيء سيّئ وأنت بالقرب مني». وكانت توجه هذا الكلام لتلك الطفلة الصغيرة، التي، على ما يبدو من الصورة، أنها كانت تتجول داخل محل لبيع الزهور، أو مشتل.
وعلى ما يبدو، فإن الزوجين عاشا حياة هنيئة وأنجبا بنتاً وعاشا في ثبات ونبات، واشترا ملابساً للطفل القادم، وسريراً، ومصاصة، وقنينة حليب. ويبدو أنهما ظلّا فرحين كثيراً إلى أن...



ما بعد المجزرة
إنه صباح التاسع من آب 2018. الأقرباء والجيران وكل من عرف تلك العائلة الصغيرة، يجرّون أقدامهم وأجسادهم، ثم يصلون إلى المكان الذي فيه انتهت الحياة. هناك حيث توزّع دم العائلة على الجدران، وخرج الجنين من بطن أمه دون أن ينفصل تماماً. أمّا بيان، فقد طبّقت وصية أمها حرفياً «وكانت بقربها دائماً»، وقد تخلّت عن كل تلك الدمى التي أيضاً توزعت على أرض المجزرة. وهناك في تلك الغرفة الزوجية المتواضعة، ظهرت صورة العائلة فجأة على المرآة، التي حولها علّقت إيناس، عقداً من الورد الحمراء!
وبعدما شيّع حي الجعفراوي الشهداء الثلاثة، ووضعوا فوقهم كمية وفيرة من تراب الأرض، آمن الناس الذين بقوا أحياء، أن الأم والابنة والجنين صعدوا جميعاً إلى فوق. أمّا ذلك الشيء الذي يسمونه جوراً «ملاك» فما زال مُطلّاً على تحت، من شرفة السماء، حيث يظهر وجهه بين الغيوم، ويستطيع أي أحد رؤية فمه المفتوح وهو ينادي جنوده الإسرائيليين عبر بوق أبيض ضخم مصنوع من أنياب الفيلة: أريد المزيد!