هل تخيلت يوماً أن تقف بمنشار وإبرة ومقص وخرقة أمام طوفان من الأجساد المبتورة الأطراف؟ ثم يُهيّأ لك أنك منفصل عن الواقع، حيث بدأت ترى مكان عملك ــ المستشفى ــ وكأنك تنظر إليه من الخارج؟ لكن فجأة، تعيدك الصرخات إلى حيث يتمدد جسد طفل فوق سرير أبيض؟ لا حاجة لخيال أحد... أولئك الذين يعيشون في الجحيم يرسلون إنذاراً: غزة ليست بخير! ثلاث رسائل وصلت من غزة إلى «الأخبار»، عبر منظمة «أطباء بلا حدود». الأولى من طبيب مشى في رواق الموت و«وصل» ليخبرنا ما رأى. أمّا الثانية، فهي من طفل يقول إنه ذهب إلى الشريط الفاصل بين القطاع وبقيّة الأرض المحتلة لـ«يتسلى مع أصدقائه، من دون أن يعرف ماذا ستكون النهاية». والأخيرة من نادل عمل في مطعم قبل أن تعوق آلة القتل الإسرائيلية حركته مدى الحياة، إلا إذا...

مستشفى «فائق التشبع»
محمد أبو مغيصيب، طبيب الإحالة في «أطباء بلا حدود» داخل غزة، يروي في شهادته أن الأشهر الستة الماضية كانت «الأصعب»، منذ بدء عمله قبل 15 عاماً مع المنظمة، وحتى «بالمقارنة مع الحروب التي شنّتها إسرائيل، في الأعوام 2008 و2012 و2014 على القطاع». وبما أنه ولد في غزة، وعاش وعمل فيها طوال حياته طبيباً، ونظراً لما مرّ عليه، فهو يقرّ بأن مدينته «لم تعد تحتمل». في شهادته، يشرح أن عدد الجرحى الذين «نجوا» من الموت، ووصلوا لتلقي العلاج «كان عدداً هائلاً وصادماً».
ففي يوم الاثنين الواقع فيه 14 آذار الماضي، حدث ما لا يمكن أن ينساه الطبيب: «لقد كنت أحد الجرّاحين العاملين في مستشفى الأقصى، أحد أبرز مستشفيات قطاع غزة. وبعد الساعة الثالثة، بدأنا باستقبال تدفّق المصابين القادمين من التظاهرة. وصل ما يزيد على 300 جريح خلال أقل من أربع ساعات» (وثّقت السلطات الصحية في ذلك اليوم ما مجموعه 2271 إصابة. العدد شمل 1359 إصابة بالرصاص الحي). يضيف الطبيب: «لم يكن قد مرّ عليّ هذا الكمّ من المصابين طوال حياتي. لقد كانوا مصطفّين بانتظار دورهم لدخول غرفة العمليات، وكانت ممرات المستشفى مليئة بالجرحى، جميعهم كانوا يبكون ويصرخون وتسيل منهم الدماء».
وعلى مدار خمسين ساعة متواصلة! عمل الطبيب إلى جانب الكادر الطبي في المستشفى بجهد كبير «لكن لم يكن باستطاعتنا أن نتعامل مع هذا الكمّ الهائل من الجرحى». المشهد منذ ذلك اليوم يتكرر في المستشفيات، واللافت أن غالبية الجرحى الذين يصلون إلى المستشفى «هم شبّان أصيبوا بأعيرة نارية من التي ترفع احتمال إصابتهم بإعاقات دائمة ستغيّر مجرى حياتهم».
هذا ليس كل شيء. يشرح أبو مغيصب أنه «في كل نهاية أسبوع يُخرّج المستشفى عدداً من المرضى والمصابين بشكل مبكر، بهدف توفير أسرّة للمصابين الجدد المتوقع قدومهم». والسبب أن «النظام الصحي في غزة منهار ويقع تحت ضغط الطلب المرتفع والنقص المستمر». وبالرغم من أن المنظمة تبذل جهدها لعلاج الجرحى، البالغ عددهم بحسب وزارة الصحة أكثر من 20 ألفاً منذ بدء المسيرات، يبقى الأمر «صعباً للغاية على المستويين اللوجيستي والطبي. فهناك عدد كبير من المصابين يحتاجون لتدخل جراحي تقويمي متخصص للإصابات التي تعرضوا لها بأطرافهم، ما يعني إخضاع بعضهم لعدة عمليات جراحية، لكن ذلك غير متوافر حالياً في غزة».
عدد الجرحى الذين نجوا من الموت ووصلوا لتلقي العلاج كان هائلاً وصادماً (أ ف ب )

الخطر لا يتوقف عند حدّ نقصان المعدات الطبية فقط، بل يصل، بحسب الطبيب، إلى حد «قد يتعرّض فيه الجرحى للالتهابات. وإذا وصل الالتهاب إلى العظم النقي يمكن أن يؤدي ذلك إلى عدم شفاء الجروح في حال عدم علاجها، ما يرفع من أمكانية تعرض المصاب لبتر جزء من جسده». ويضيف أنه «كلما طالت المدّة، ازداد الوضع سوءاً. هذه الالتهابات لا بدّ من علاجها على الفور. إنّ من المرعب التفكير في احتمالية تعرض هؤلاء الشبان الصغار للبتر».
المصيبة الأعظم أن تشخيص الالتهاب «ليس بالأمر السهل»؛ حيث «لا يوجد في غزة أية منشآت أو معدات يمكنها تحليل عينات العظم وتحديد إذا ما كانت تحتوي على التهابات»، وهو ما تحاول المنظمة بذل جهود في توفيره عبر إنشاء مختبرات، لكن هذا أيضاً «يحتاج لوقت طويل».

الحياة تستعين بعكاز... لتمشي!
المأساة التي تبدأ بإصابة شخص ما، لا تتوقف عند حياته فقط، فهي تصيب طبيبه ومعالجيه، وتصل إلى عائلته أيضاً. يشرح الطبيب أبو مغيصيب أنه يتنقل داخل مختلف المناطق في غزة، وأثناء ذلك «يمكنني مشاهدة شبان على عكازات أو كراسي متحركة في كل مكان وعلى أرجلهم مثبتات داخلية... إن هذا المشهد بات اعتيادياً، وغالباً ما تراهم يتبسمون ويواصلون الحياة بالرغم من الإصابة». ولكن بالنسبة إليه كطبيب، يعرف أن «التأقلم طويل الأمد مع حالتهم، أمر صعب جداً».
مثلاً خلال حديثه مع أحد الشباب الجرحى من الذين كان يعالجهم، وعرف الأخير أنه يمكن أن يخسر رجله بسبب إصابته برصاصة أدت إلى تفتت العظم، سأله الشاب: «هل من الممكن أن أمشي مرّة أخرى؟». يشرح الطبيب قائلاً: «إنه لأمر صعب. لأنني أعلم أنه طبياً، بالاستناد إلى حالته الصحيّة، سيعاني حتى يقدر على المشي مرة أخرى. وكان يجب عليّ أن أخبره بوضعه وأن هناك خطراً مرتفعاً لأن يفقد رجله. لقد كان من الصعب إخبار شابّ مقبلٍ على الحياة بذلك. لكن الأمر لا يتوقف على شخص واحد فقط، بل هو حديث نخوضه دورياً مع العديد من المرضى».
يشرح الطبيب أنه وزملاءه في العمل يحاولون بذل قصاراهم في ظل المحددات التي يواجهونها، مثل امتلاء المستشفيات، والحصار المتواصل، و الكهرباء المنقطعة لمدة 20 ساعة في النهار، ونقص الوقود، ونفاد المخزونات الطبية، وقلة الجراحين المتخصصين، والمعدات الطبية المعطلة ولا سبيل لإصلاحها لعدم وجود قطع بديلة؛ والممرضين والأطباء المرهقين من العمل المتواصل بالمستشفيات، وذلك بالرغم من عدم تلقيهم مستحقاتهم منذ أشهر... القائمة تطول فضلاً عن أن «الحالتين الاجتماعية والاقتصادية انهارتا تماماً. والآن، يمكن رؤية الأطفال يشحذون في الشوارع، وهو أمر لم نعتد رؤيته قبل سنة أو سنتين». ينهي الطبيب رسالته: «حيث أقف الآن وبنظرة سريعة إلى المستقبل يظهر لي أنني أنظر خلال نفق شديد الظلام، ولست متأكداً من وجود النور بآخره».

«الملهاة» الغزيّة
في 14 أيار الماضي، ذهب الطفل محمد (12 عاماً) «ليتسلّى مع أصدقائه على الحدود»، كما يقول في شهادته، مضيفاً أنه «لم يكن يعلم أن الأمر سيكون بتلك الخطورة». كان هذا اليوم كارثياً، إلى حدّ وصلت فيه أعداد الشهداء والجرحى في غضون بضع ساعات إلى ما يعادل عددها في أيام الحروب الطويلة. وإلى حد انهارت فيه قدرة المرافق الطبية الموجودة في القطاع. إصابة محمد، بحسب المنظمة، كانت في كلتا الساقين: «رصاصة في ساقه اليمنى، وأخرى في فخده اليسرى، إضافة إلى جروح وخروج للطلقة في كلتا الساقين».
مع ذلك، «الحمد لله إن إصابتي تلتئم»، يقول الطفل، بينما ينتظر دوره لجلسة العلاج الفيزيائي في عيادة «أطباء بلا حدود». هو كما يقول في شهادته: «عندما أكبر أود أن أصبح ممرضاً، بعدما شاهدت كيف ساعدوني هنا (في عيادة المنظمة). حلمي الوحيد أن أتمكن من الذهاب إلى المدرسة. وإن تحقق فسأكون سعيداً». لكن مأساة محمد لن تنتهي فقط بتعافيه وذهابه إلى المدرسة، إذ أصيب والده أيضاً في اليوم نفسه، وبتر إبهامه جراء ذلك، وهو الآن بلا عمل (كان يعمل سائق سيارة أجرة).
لمحمد خمسة أخوة، أكبرهم 16 عاماً، وأصغرهم عشرة أعوام. العائلة «ليس لديها المال الكافي» كما تشرح الأم، مضيفة أن «زوجي وأولادي وبينهم محمد المصاب يعملون في جمع الأشياء (علب فارغة وحديد) وبيعها في السوق.. يعود محمد متعباً بسبب إصابته، وأيضاً لا يستطيع النوم في الليل لأنه يعاني نوبات هلع. هو يحب أن يرتاد المدرسة، وأنا أحلم بأن أراه يحمل حقيبته على ظهره... سألت المدرسة إذا كان بالإمكان تسجيله، ولكنهم قالوا إنه يجب أولاً تأمين الزي المدرسي... لكن حتى ثمن الزي لا نستطيع تأمينه».


«غزة... أملي للمستقبل؟ ليس عندي أمل»
أصيب محمد (28 عاماً) في السادس من نيسان الماضي، وينتظر الآن معرفة ما إن كان سيتمكن من السفر إلى الأردن لاستكمال العلاج من الإصابة التي تعرض لها بطلق ناري في ساقه اليمنى؛ إذ إن الجِراحة التي يحتاجها غير متوافرة في غزة، ومن دونها قد لا يستعيد كامل قدرة ساقه على الحركة، وقد يعاني من إعاقة مدى الحياة.
في شهادة محمد، الذي كان يعمل نادلاً في أحد المطاعم قبل أن يُصاب ويفقد قدرته على الحركة، يقول: «كنت أعرف أن الذهاب ينطوي على خطورة، ولكنني أردت أن أشارك في التظاهرة كما أراد الجميع. كنت في طريقي إلى العمل، لكن في اللحظة الأخيرة غيرت رأيي وقررت الذهاب. كان معي أصدقائي وقد أصيب أحدهم أيضاً، لكن إصابته أخف من إصابتي». ويضيف: «عندما أطلق الجنود الإسرائيليون علي النار، كنت واقفاً فقط. شعرت كأن الرصاصة سحقت عظامي. حاول صديقي أن يجد الأجزاء المفقودة من عظمي لكنه لم يجدها».
خضع محمد لستِّ عمليات جراحية حتى الآن. توضح «أطباء بلا حدود» أن «من بينها عمليات إنضار (إزالة الأنسجة الميتة والمواد الغريبة) وعملية لإغلاق الجرح». يشرح محمد أن الأطباء أخبروه أنه «قد يحتاج لبتر ساقه بعد إغلاق الجرح».
ويضيف: «وضعي صعب جداً، وأشعر بفقدان الأمل، فأنا لا أعرف ما ستكون عليه حياتي في المستقبل أو ما يخبئه لي القدر. لا أعرف إن كان وضعي سيصبح أفضل أو أسوأ...». أمّا لماذا كان يتظاهر؟ فيشرح: «كأي فلسطيني. لقد مررنا بالكثير من الصراعات مع إسرائيل وهي لا تنتهي. ذهبت للتظاهر عند الحدود لأن ذلك حقنا وهذه أرضنا. ذهبت لذلك السبب فقط». ومع كل ما مرّ به، يقول: «أحب أن أروِّح عن الناس من خلال الموسيقى، فهذا هو عمل الموسيقيين في غزة. أجيد العزف على الأورغان وعلى الطبول. كان عمي مطرباً وكنا نؤدي معاً، أما الآن فلا يمكننا ذلك حتى أشفى».