لا تغيير في تقدير استبعاد العدوان الإسرائيلي الواسع على قطاع غزة. إطلاق الصاروخين الفلسطينيين اللافتين في مداهما وتفلّتهما من الدفاعات الإسرائيلية، كما الرد عليهما، لا يلغيان أن الجانبين غير معنيين بتصعيد عسكري واسع، وإن كانا يهددان به. مع ذلك، القصف الفلسطيني محطة مفصلية في دلالاته، وما يمكن أن يتبعه من نتائج على المشهد الميداني والسياسي بين الجانبين.وقد لا تنتهي أسئلة ما بعد الصاروخين الفلسطينيين: هل ينجر الجانبان هذه المرة إلى مواجهة واسعة لا يريدانها وإن تدحرجا؟ هل الامتناع الإسرائيلي عن هذه المواجهة، على رغم ضرورة الامتناع، بات مضراً بما لا يمكن تحمله، ما يدفع إلى الحرب وإن بعد تردد؟ هل ما زالت جبهة تنامي وتعاظم «التهديد الحقيقي» في سوريا ولبنان، بحسب التعبيرات العبرية، تمنحان غزة هامش مناورة في وجه الاحتلال واستنزافه باتجاه دفعه أكثر للتراجع؟ وهل في الصاروخين الفلسطينيين رسالة تحذير تتجاوز إسرائيل إلى شركائها الفعليين في حصار القطاع: السلطة الفلسطينية ومصر؟
في ذلك، من المفيد الإشارة إلى الآتي:
أولاً: في الدلالات المباشرة للصاروخين لا يمكن فصل زيارة الوفد المصري الذي وصل إلى القطاع لترتيب زيارة رئيس جهاز المخابرات عباس كامل. الزيارة التي تهدف كما أعلن إلى استئناف جهود التهدئة ومقدماتها، وتحديداً ما يتعلق بالمصالحة مع السلطة الفلسطينية. هل أن إطلاق الصاروخين يعد رسالة جوابية على ما تحمله القاهرة إلى غزة، وإن من خلال قصف طاول إسرائيل وعمقها؟ وهل هما رسالة صد ميدانية ضد منطق الفرض والإملاء على غزة؟ سؤالان لا يخلوان من وجه، خصوصاً بعد أن عمد كامل إلى إلغاء زيارته التي كانت مقررة اليوم الخميس، فيما غادر الوفد غزة في أعقاب إطلاق الصاروخين.
ثانياً: مع أو من دون كون الصاروخين رسالة باتجاه القاهرة، تنظر تل أبيب إلى الصاروخين بمستوى عال من الخطورة، سواء علمت أو جهلت الجهة التي تقف خلف إطلاقهما، على رغم أنها في آخر نسخة تقدير، رست على فرضية الجهة المجهولة. في ذلك، لا تخرج هذه الفرضية عن واحد من سيناريوين: إما أن أحد الفصائل أراد تعزيز موقفه والرد على الاعتداءات الإسرائيلية من دون تبنّ، من خلال رسالة عملية تظهر استعداد المقاومة للذهاب بعيداً في حال لجأ الإسرائيلي إلى التصعيد. أو أن فصيلاً آخر سلفياً أو غير سلفي، دخل على خط التوتر لأجندات خاصة به.
يرى الإسرائيلي في كلا الحالتين نتيجة سلبية جداً تترتب على الصاروخين، أيّاً كانت الجهة التي تقف خلفهما، بخاصة إن لم تبادر إلى الرد بمستوى يوجه رسالة ردع. الامتناع عن الرد، في هذه الحالة، يؤكد ضعفها بمعنى محدودية خياراتها الفعلية، مع تعزيز موقف الفلسطينيين في المقابل.
في الموازاة، الصاروخان ذاتهما (الأول سقط في مدينة بئر السبع، والآخر بشكل مقصود في البحر، قبالة تل أبيب) حتى لو رد الإسرائيلي بمستوى أو بآخر، يعنيان أن جهة أو جهات فلسطينية، مستعدة للذهاب بعيداً في حال نفذ الإسرائيلي تهديدات المستوى السياسي لديه، في إخضاع الفلسطينيين عبر عملية عسكرية «قاسمة»، كما وردت أخيراً على لسان ليبرمان وغيره. وعلى هذه الخلفية، يصح أن نعتبر ضربة الصاروخين، محطة في سياق التجاذب القائم بين المقاومة من جهة، وإسرائيل وشركائها من جهة مقابلة.
ثالثاً: قضى الصاروخان على كل مفاعيل التهديدات الإسرائيلية في الأيام القليلة الماضية التي أرادت تل أبيب من خلالها رفع منسوب القلق لدى سكان القطاع وقيادته، وهو هدف راهنت عليه إسرائيل لاعتقادها وربما عن حق، أن الطرف الآخر لا يريد حرباً أو التسبب بها، وإن كان من ناحية فعلية، لا يريد حرباً لكن ليس بأي ثمن. في المقابل، رفع الصاروخان منسوب القلق الفعلي لدى الإسرائيلي وسكان مستوطنات غلاف غزة وصولاً إلى مدينة بئر السبع وكذلك إلى وسط إسرائيل. الإشارة الفلسطينية كانت واضحة: لا يمكن استبعاد أي مستوى من مستويات الرد الفلسطينية التي تبدأ من بئر السبع وصعوداً من دون الاقتصار على مستوطنات غلاف غزة.
رابعاً: الصاروخان، من ناحية الإمكان والأرجحية، يتيحان للطرفين المتقابلين سياسياً في المجلس الوزاري المصغر في تل أبيب الدفع كل بحسب أجندته وأهدافه ونظرياته لمواجهة أو عدم مواجهة الفلسطينيين، وإن كانت تصريحات ومواقف الطرف المطالب بالحرب والمواجهة، لا تخلو من أسباب داخلية انتخابية، بات أكثر إلحاحاً في ظل الحديث عن انتخابات عامة مبكرة للكنيست.
الطرف الممتنع الذي يشمل نتنياهو وكذلك ليبرمان على رغم كل تهديداته، يقف بشكل صلب ضد المواجهة مع الفلسطينيين، ويدعو إلى ضرورة العمل على استيعاب تطورات المشهد الغزي، في حدود الاستطاعة القصوى. تقف المؤسسة العسكرية إلى جانب هذا الفريق، التي لا ترى ضرورة التسبب بمعركة مع غزة من شأنها أن تستتبع استهداف العمق الإسرائيلي، على رغم أن تحدياتها محمولة نسبياً، ولا تقارن بتحديات وتهديدات الشمال (سوريا ولبنان)، وهي الجبهة الأكثر تعقيداً وتحدياً لإسرائيل وأمنها، ضمن معركة جارية يحوطها لا يقين ومحدودية فرص.
يؤكد هذا الفريق عملياً، في السياق نفسه، على الفرضية السائدة لدى الجيش الإسرائيلي ومحافل التقدير الاستخبارية لديه، بأن لا أفق للمواجهة الواسعة مع قطاع غزة، ولا نتيجة فعلية يمكن تحصيلها من خلال حرب يتعذّر تقدير نتائجها الكلية مسبقاً، بما يشمل تعذّر تقدير مداها الزمني. بحسب هذا الفريق، تستدعي غزة مزيداً من الحكمة وحصر مستوى المواجهة معها بقدر تهديدها الفعلي، ومع الامتناع عما من شأنه التصعيد الكلي معها. في ذلك، الصاروخان الفلسطينيان يؤكدان وجهة نظر هذا الفريق ويدعمانه، بخاصة أنهما يظهّران نقطة بدء المقاومة الفلسطينية في ردها العسكري إن نشبت المواجهة الواسعة (بدءاً من بئر السبع وتل أبيب).
خامساً: مع ذلك كله، اللا رد الإسرائيلي يعد ضعفاً. في حد أدنى، هو تظهير محدودية خيارات إسرائيل العسكرية ضد قطاع غزة. أن تتجه إسرائيل إلى الانكفاء الفعلي، وإن عمدت إلى رد يمكن تسويقه إعلامياً من ناحية كمية هجمات خالية من الفاعلية في ردها أمس على غزة، هو موقف يستأهل الكثير من التأمل. وهو ما أكده نتنياهو أمس في تهديداته، وإصراره غير المباشر على الانكفاء عن غزة ومواجهتها، على رغم تعزز أسبابها.
في ذلك، إسرائيل معنية بتوجيه رد «لا يكسر الأواني» ضد فصائل المقاومة في قطاع غزة. رد قاسٍ في الشكل، ويمكن تسويقه لدى المستوطنين بوصفه تعبيراً عن اقتدار المستوى السياسي وجرأته في اتخاذ القرارات. على هذه الخلفية، قد تلجأ إلى كل ما هو متاح دون مستوى التسبّب بمواجهة واسعة، ما يعني تكرار مشاهد مرت على قطاع غزة في الأشهر الأخيرة، في انتظار مستويات أخرى من التصعيد المقبل.