داخل معتقل «هشارون» الذي أنشأته إسرائيل في سبعينيات القرن الماضي على طريق مدينة الخضيرة، وجدت 34 أسيرة فلسطينية، بينهنّ قاصرتان، أنفسهن في سجن داخل آخر. لذلك، هن منذ 43 يوماً يخضن معركة من أجل الحصول على بقعة ضوء. إضراب الأسيرات عن الشمس، والخروج إلى ساحة «الفورة»، بدأ منذ اللحظة التي قررت فيها «إدارة مصلحة السجون» الإسرائيلية نقض الاتفاق الذي توصلت إليه سابقاً مع الحركة الأسيرة، والذي يقضي بعدم نصب كاميرات مراقبة داخل الأروقة وداخل الساحة الخارجية المغلقة أساساً (ذات جدران عالية ومسقوفة بالبلاستيك الشَّفاف). تضامناً مع أسيرات «الشارون»، انضمت قبل أيام رفيقاتهن في سجن «الدامون» (قرب حيفا) لمقاطعة الخروج إلى «الفورة». أمّا الأسرى، فقد نقلت «هيئة شؤون الأسرى والمحررين» عن قادتهم، اليوم، أنهم «سيبدأون غداً بخطوات نضاليّة تصعيدية تتمثل في إعادة وجبات الفطور الصباحية، وإغلاق الأقسام من الساعة الواحدة وحتى الثالثة ظهراً». الأسرى هددوا حكومة العدو بأن «المساس بالأسيرات مساسٌ بالحركة الأسيرة، والأسرى المحررين، والشعب الفلسطيني أجمع... نحن جاهزون لتقديم كل التضحيات في سبيلهن، وعلى حكومة الاحتلال أن تعلم جيداً أنه بعد اليوم لن يكون هناك هدوء ولا استقرار، والتصعيد سيأخذ منحىً آخر الأسبوع المقبل».

مُخيلة الشرير
تُصادر حُرية الفلسطيني (قبل أن يصبح اسيراً) منذ اللحظة الأولى التي يُبلَّغ فيها أنه مطلوبٌ للتحقيق لدى أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية. قبل أن يصل إلى غرف التحقيق، تصبح حياته بمثابة نقطة سوداء يحاصرها الضوء، إلى حدٍّ يصبح فيه المرء وكأنه خرج من جسده وراح يراقب ذاته من مسافة. يحصل هذا في «أحسن» الحالات. أمّا أسوأها، فهي حين يُعتقل الفلسطيني بُعيد تنفيذه عملية طعن أو دهس أو إطلاق نار.
في الحالتين، سيصل المرء إلى غرف التحقيق. إلى «مسلخ نفسي» بداخله مكاتب عصرية، وفيه شاشات حواسيب وكراسي بأظهر وأرجل متحركة للمحققين، ولوح أبيض للكتابة، وحتى لوحات فنيّة لأشهر الرسامين العالميّين! ولكن قبل الوصول إلى هذه المرحلة، يكون المعتقل أو المطلوب للتحقيق قد بدأ بالتعرف إلى أنواع انتهاك الخصوصية الجسدية، والشخصية، والنفسية: مصادرة الأغراض الخاصة، مروراً بالتجريد الكليّ من الملابس، ومن ثم الطلب من المعتقل القيام بـ«طلعات ونزلات» للتأكد أنه لا يخفي غرضاً داخل دبره أو أعضائه التناسلية. ومن ثم يقاد عبر بوابات إلكترونية، وأروقة مراقبة بالكاميرات، ليصل أخيراً إلى مبنى فيه غرف للتحقيق، وهنا يقابل وجهاً لوجه جلاداً بثيابٍ مدنية.
يحصل هذا كلّه للأسرى من الذكور والإناث على حدٍّ سواء، ولكن، ولأسباب كثيرة، للأخيرات حصة أكبر بكثير في العذاب.
تروي الأسيرة المحررة من سجن «الشارون» نجوان عودة (36 عاماً) لـ «الأخبار»، قائلة إن هذا المكان «واحد من أبشع السجون الموجودة في إسرائيل... أفهم ما تعانية الأسيرات الـ32 حالياً، بعد انقطاعهن لمدة 43 يوماً عن الخروج إلى الساحة». تضيف أن «الفورة (الساحة التي تخرج إليها الأسيرات لمدّة محدّدة) هي بمثابة رئة داخل السجن، حيث يقمن بتمارين رياضية، ويجتمعن ويتحدثن. كذلك فإنها المكان الذي فيه غسّالة الثياب، ومعدات الطبخ، ومن خلالها أيضاً يذهبن إلى المكتبة لقراءة الكتب والدراسة. أمّا الأهم، فهو أنها المكان الوحيد الذي من خلاله يمكن التعرّض لأشعة الشمس، التي يفصلها أساساً سقف بلاستيكي شَفّاف». أما في الوضع الحالي، وفي وقت لم ترَ فيه الأسيرات الشمس لمدة طويلة، فإن «هذا الأمر يؤثر بصحتهن الجسديّة والنفسيّة كثيراً».
عودة تشرح لـ«الأخبار» أنه «وفق الاتفاق الذي توصلت إلية إدارة السجون والحركة الأسيرة، لا يجب تركيب كاميرات مراقبة، لكن الإدارة نقضت الاتفاق، الأمر الذي أثر بالأسيرات وحدّ من حركتهن؛ فغالبيتهن محجّبات، ولذلك لا يستطعن التنقل كل الوقت بثياب مريحة تصلح لممارسة الرياضة مثلاً».
الغرف عبارة عن زنازين قديمة وضيقة في كل واحدة منها ستّ أسيرات (من الويب)

هذا ليس كل شيء، فالأسيرات ملزمات بالجلوس داخل الزنازين منذ الساعة الخامسة عصراً حتى الساعة العاشرة صباحاً. والغرف، بحسب عودة، «زنازين قديمة وضيقة، في كل واحدة منها ستّ أسيرات. وهي غرف مليئة بالرطوبة والعفونة، وفيها فقط شباك صغير جداً للتهوية ــ بالقرب من السقف». ومن خلال التجربة التي خاضتها (سنة ونصف سنة داخل المعتقل)، فإن «أقسى أنواع التعذيب، هو أولاً التفتيش العاري (تعرضت نجوان لـ40 تفتيشاً عارياً). وثانياً نقل الأسرى داخل البوسطة إلى المحاكم، وهي رحلة تستمر لمدة ثلاثة أيام، يُنقل فيها الأسير داخل باص حديدي مقسم داخله إلى كابينات في كل واحدة ثلاثة أسرى يجلسون على مقاعد حديدية، ثم يطلب من الأسرى أن يبيتوا ليلة داخل ما يسمى (معبراً) لينقلوا أخيراً إلى المحاكمة». خلال هذه الرحلة القاسية «كان السجانون في أيام الصيف يشغّلون التكييف الساخن، ونحن أساساً في بوسطة حديدية من دون تهوية، وفي أيام الشتاء يفعلون العكس. وفي أحيان كثيرة كانوا يُطفئون محرك السيارة لساعات فنشعر بالاختناق بفعل انخفاض نسبة الأوكسجين. بالإضافة إلى أننا كنّا نمتنع عن الشراب والطعام كي نتجنب حاجتنا لدخول الحمام، لأنهم كانوا يرفضون السماح لنا بذلك».
وبرغم أنه لا يجري التحدث كثيراً عن حوادث تعرّض الأسيرات للتحرش الجنسي، سواء الجسدي أو اللفظي (خوفاً في أحيان كثيرة من العار)، تؤكّد عودة أن «الأسيرات يتعرّضن لذلك. في إحدى المرات، كانت هناك أسيرة تُنقل داخل البوسطة، مع سجناء جنائيين إسرائيليين، أحد هؤلاء خلع كل ثيابه أمامها ــ كان بينهما فاصل نصفه حديدي والأخر زجاجي. وتتعرض الأسيرات أحياناً لتحرّش باللمس، أو من طريق الكلام».
أمّا بالنسبة إلى وجبات الطعام، التي قلّلتها إدارة السجون أخيراً، فهي ببساطة «لا تؤكل». تشرح عودة، وتقول إنها «كانت تشتري طعاماً معلّباً من الكانتينا (مقصف السجن)، لأنها لم تكن تستطيع أن تتناول الدجاج المسلوق بريشه! في أحيان كثيرة كانت الأسيرات يُعدن تنظيف الدجاج المقدم إليهن، ويطبخنه مجدداً ليصبح صالحاً للأكل».
وكحال الأكل غير الصالح، الذي يسبب الإسهال في أحيان كثيرة، وحالات مغص وقَيء، تقول نجوان إن إدارة السجن «ترفض أن تحضر لهن طبيبة نسائية، أمّا الطبيب فهو يسيء معاملتهن، ولا يرتحن أثناء خضوعهن للفحص في عيادة السجن على يده». أمّا أقسى اللحظات التي مرت داخل السجن فتلخصت بمعاناة الأمهات الأسيرات، اللواتي ــ بحسب عودة ــ «كن ينتظرن زيارة أطفالهن، ولا يستطعن حضنهن إلا لخمس دقائق، حيث تحضر السجانة الطفل لأمه وتسحبه بلمح البصر».

الزيارة الأخيرة: تعب ووهن وأمراض
سوسن، والدة الأسيرة مرح باكير التي اعتقلت منذ 12 تشرين الأول/ أكتوبر عام 2015، وحُكم عليها بالسجن 8 سنوات ونصف، بعدما اتهمتها سلطات الاحتلال بأنها كانت «تنوي تنفيذ عملية طعن»، توجهت قبل أيام لزيارة ابنتها، تقول لـ«الأخبار» إنها لاحظت خلال الزيارة الأخيرة أن الاسيرات «متعبات جداً، ووجوههن صفراء وشاحبة، ويشعرن بالوهن الشديد والوجع في عيونهن، بالإضافة إلى تفشي الأنفلونزا بينهن، والطفح الجلدي بين بعضهن».
تضيف الوالدة المنهكة أيضاً، قائلةً إن «حال الأسيرات في سجن الشارون صعبة للغاية، وحاولنا التواصل مع المسؤولين الفلسطينيين من أجل التحرّك، لكن لا حياة لمن تنادي». وتتابع بالقول إن ابنتها التي «أطلق عليها جنود الاحتلال أكثر من 14 رصاصة، لا تزال تعاني من الألم والأوجاع... لقد أخبرونا أنهم سيخفضون الزيارات من اثنتين في الشهر إلى واحدة (مدة الزيارة 45 دقيقة)». كذلك، تقول إن وزير الأمن الداخلي، غلعاد إردان، الذي قرر منذ بداية أيلول الماضي تشكيل لجنة لمراقبة الأسيرات «يظن أن بناتنا يعشن هناك في فندق سبع نجوم. لذلك، ستنقل جميع الأسيرات إلى الدامون خلال أسابيع، من أجل محاصرتهن ومراقبتهن أكثر بهدف التضييق عليهن».
أمّا بالنسبة إلى إخوة مرح، فإن الوالدة تفضل إلا يذهبوا معاً للزيارة: «لأنني أشعر بحزن مرح عندما تنتهي الزيارة، ونعود كلنا إلى البيت، أمّا هي فتظل في ذلك المكان الموحش والكئيب».