تحت ستار توراتي مزيّف، يحاول العدو الإسرائيلي، ولا سيما مستوطنوه في الضفة المحتلة، اختراع رابط بينهم وبين الأرض التي يحتلّونها بقوة السلاح. هم لم يكتفوا بالعمل على قدم وساقٍ لـ«تهويد» القدس المحتلة، بل امتدّ الاستغلال السياسي لـ«التوراة» ليطاول نحو 23 مقاماً في الضفة يقتحمها المستوطنون بصورة متكررة، على رغم أن مقامات كثيرة منها أتت بعد قرون على التوراة.يعود تاريخ المقامات الدينية والتاريخية في فلسطين إلى حقب تاريخية متعددة إبّان فترات الحكم الإسلامي المتعاقبة، لكن العهدين المملوكي والفاطمي شهدا الانتشار الأوسع لها. ومن جهة أخرى، لا بدّ من التفريق بين المقام والضريح العادي، فالثاني هو القبر المتعارف عليه، بينما المقام غرفة أو أكثر وقد يضمّ ضريحاً داخله أو يُبنى من دون قبر، تبرّكاً أو علامة على مرور الشخص من المكان أو تكريماً له. وعامة، تُنسَب المقامات في الضفة المحتلة خاصة، وفلسطين عامة، إلى أنبياء أو علماء أو أولياء صالحين، فيما تكون مقامات الأنبياء والصحابة أقدم عمراً من البقية الأقلّ شهرة، طبقاً للموروث الديني والتاريخي، وأحياناً الشعبي.
تتوزع هذه المقامات على امتداد الضفة، وقسمٌ منها بات تحت سيطرة العدو منذ احتلاله القدس والضفة عام 1967، مثل: مغارة «مشهد إبراهيم» الواقعة داخل الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل (جنوب)، وتسمّى بالعبرية «المكفيلا»، وقد انتزعها العدو من الفلسطينيين وأجرى تعديلات عليها، كما أقام مستوطنات في محيطها؛ أبرزها «كريات أربع» بعدما سيطر على الحرم كلياً. وتكرر الأمر نفسه في بلدة كفل حارس، شمالي سلفيت، مع فارق أن مقامَي النبي ذي الكفل ويوشع بن نون يلاصقان بيوت الفلسطينيين.
القسم الآخر من المقامات فقده الفلسطينيون بفعل سرقة الأراضي لإنشاء المستوطنات وتوسعتها أو لبناء جدار الفصل العنصري، وقد تكون هذه الطريقة في السيطرة على المقام مدموجة مع أساليب أخرى. فهناك مقاماتٌ سيطر العدو عليها منذ 1967 وشيّد المستوطنات قربها، ثمّ قطّع الجدار أوصال أراضي الفلسطينيين حولها. وعلى أي حال، يمكن رصد السعي الإسرائيلي للسيادة على المقامات مبكراً، إذ تزداد وتيرة اقتحامات المستوطنين لها بالتوازي مع نشاط ملحوظ لحملات التنقيب عن الآثار التي يقودها «علماء» إسرائيليون.

«أوسلو» أسّس للسرقة
وجد العدو في اتفاق أوسلو 1993 وملحقاته في العامين التاليين فرصة سانحة ليشرعن سيطرته على مقامات محددة أَوْلاها اهتماماً خاصاً، فمثلاً قبة مسجد بلال بن رباح، المسماة «قبة راحيل» إسرائيلياً، الواقعة على المدخل الشمالي لمدينة بيت لحم (جنوب) مصنّفة وفق «أوسلو 2» في 1995 كمنطقة «ج» إسرائيلية، بعدما سُلخ المكان عن بيت لحم المصنفة «أ» تحت سيطرة السلطة الفلسطينية. وبعد ذلك، تحوّلت القبة من «مكانٍ مقدس للديانات الثلاث» وفق «أوسلو» إلى معسكرٍ استيطاني رئيسي يفصل بيت لحم عن القدس والخليل. أما قبر يوسف وتل بلاطة، الواقعان في المنطقة الشرقية من مدينة نابلس (شمال) المصنفة «أ» أيضاً، فاستُثنيا وحدهما كمكانَين «يهوديَّين مقدّسين» من سيطرة السلطة!
رافق مختصّون جيش العدو في جولات مفاجئة على مقامات جديدة


بالانتقال إلى قرية عورتا الى الجنوب الشرقي من نابلس، منح اتفاق التسوية المقامات فيها وضعاً خاصاً، إذ صنّفها ضمن منطقة «ج» بخلاف بقية أراضي القرية المصنّفة «ب»، والأخيرة تتبع للسلطة (إدارياً) والعدو الإسرائيلي (أمنياً) معاً. أما المقامات داخل المدن الرئيسة الكبيرة الخاضعة للسلطة، ولم يتمكن العدو من فرض واقع خاص بها، فتنال الحصة الأكبر من الاقتحامات المتكررة (نابلس، بيت لحم، الخليل)، ويصار إلى تهويدها عبر استباحتها، لربطها بالتراث اليهودي تمهيداً لتحويلها إلى جزء من «التاريخ» المزعوم، أو للسيطرة الأمنية عليها كحد أدنى.
مهما يكن وضع هذه المقامات، وطريقة الوصول/ السيطرة عليها، يوليها العدو أهمية بالغة لما تحمله من أبعاد سياسية ودينية وتاريخية، ويتجلّى ذلك في الدعم الحكومي والأمني؛ فالجيش وأجهزة الأمن تسهّل اقتحامات المستوطنين، وتؤمّن لهم الحماية، فيما تقضي الأوامر العسكرية بمصادرة أراضي الفلسطينيين التي تجاور بعض المقامات، أو منع أصحابها من الوجود فيها.
تقول مصادر متابعة لهذا الملف، لـ«الأخبار»، إن مختصين في الآثار وأعمال التنقيب رافقوا جيش العدو خلال السنوات الخمس الماضية في جولات مفاجئة على مقامات وقبور جديدة لاستكشافها في الضفة، وتخلّل هذه الجولات تصوير للأماكن من دون أن يتغير الوضع على الأرض حتى اللحظة، لكن «الخشية لا تزال موجودة من وضع اليد بالقوة عليها استناداً إلى مزاعم توراتية». وتتعدد مواقيت اقتحامات المستوطنين للمقامات، فمنها ما يكون خلال الأعياد العبرية، أو ذكرى وفاة صاحب المقام، أو وفق تاريخ ثابت، كما يُختار يوم عشوائي أحياناً.

غياب الصدقية العلمية
يمكن من جانبٍ فهم هذا التهويد للمقامات ضمن سياق الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، لكن العدو يجد مشكلة في توثيق هذا التهويد، ولذلك يسعى إلى سدّ الهوة الكبيرة بين علم الآثار و«إسرائيل التوراتية». فحملات التنقيب الإسرائيلية وحتى الغربية منذ التسعينيات لم تنجح في ذلك، بل كلما كانت المعلومات الأركيولوجية تتراكم، يتبيّن للمؤرخين والمختصين أن ملاءمة الواقع الفلسطيني مع الصورة القديمة لتاريخ إسرائيل أمر بالغ الصعوبة.
وبرصد محاولات لصق الروايات التوراتية بمقامات الضفة، يتبين أنها روايات تفتقد الدلائل التاريخية الموثقة أو حتى المادية، ومنها مثلاً حقيقة أن العمران الإسلامي الذي يجمع ما بين هذه المقامات لا يزال ماثلاً حتى اليوم، ويمكن بسهولة رصده في مجمل فلسطين. وإذا كانت النقوش الإسلامية داخلها دليلاً على نحو ما، فإن جزءاً منها شُيّدت القبور فيها بشكل يدل على إسلاميتها بوضوح.
وما يعزّز ضعف حجج العدو وحاخاماته، وجودُ خلط ولبس في أماكن عدد من القبور داخل المقامات، فمقام يوشع بن نون مثلاً يتخذه المستوطنون مبرراً لاقتحام بلدة كفل حارس شمالي سلفيت (وسط الضفة)، رغم أن الرواية الأولى لمكان وجود القبر كانت في طبريا المحتلة، فيما توجد رواية قديمة أيضاً تقول إنه في قرية عورتا (جنوبي شرقي نابلس)، بجانب روايتين مختلفتين عن وجوده قرب السلط الأردنية وبغداد العراقية. التضارب نفسه ينسحب على مسجد النبي يونس في بلدة حلحول (شمالي الخليل)، إذ يقتحمه مستوطنون بذريعة وجود قبر النبي فيه، رغم أن القبر منسوبٌ إلى مكانين آخرين هما: الموصل العراقية، وبين إدلب وحلب السوريتين، فضلاً عن مقام للنبي نفسه في جنوب لبنان، لكنه لا يضمّ ضريحاً.