القدس المحتلة | منذ الأحداث التي أعقبت إحراق الفتى الشهيد محمد أبو خضير، وما تلاها من «انتفاضة السكاكين»، وهبّة باب الأسباط، أدركت إسرائيل أن محاولات أسرلة المقدسيين باءت بالإخفاق. ولذلك لجأت إلى محاولة تطويع المجتمع بطريقة ليّنة، تحت عنوان «العمل المدني»، فاستعانت بـ«الخدمة المدنية» التي سُنّ لها مشروع قانون لتطبيقه على الفلسطينيين من حاملي الجنسية الإسرائيلية، أو البطاقة الزرقاء المؤقّتة (المقدسيين) على حدّ سواء، بدءاً من عام 2000.وعلى رغم أن المشروع ليس جديداً، ويجري الحديث عنه منذ ثلاثة أعوام، بدأت تزداد أخيراً أعداد مروّجي «الخدمة الوطنية الإسرائيلية» على وسائل التواصل الاجتماعي، ولا سيما بين المقدسيين. استغلّ المروّجون من الإسرائيليين، ومَن معهم من فلسطينيين، الصفحات المستخدمة في نشر إعلانات التوظيف، عبر التلاعب بالمفردات لإخفاء حقيقة هذه الإعلانات وغاياتها، وذلك بالتوازي مع إغراق السوق المقدسية بالماركات الإسرائيلية.
في أعقاب هذه الموجة، توجّه شبان مقدسيون إلى حراك «ارفض! شعبك بيحميك» لاستيضاح حقيقة المشروع؛ لكون الحراك صاحب خبرة في هذا المجال. وفعلاً، عقد الشباب المعنيون ورشة للتوعية على «الخدمة الوطنية» التي تُعرف «المدنية»، ونشروا بياناً دعوا فيه إلى «توخي الحذر» حيال هذه المشاريع. يقول العضو في «ارفض! شعبك بيحميك»، خالد فرّاج، لـ«الأخبار»، إن «الورشة والبيان الذي أعقبها ما هما إلّا خطوة أولى للعمل على توعية المقدسيين على هذا المشروع الخطير».
وعلى رغم تزايد أعداد المتورطين في الخدمة أو المُروّجين لها، مع ارتفاع نسبة البطالة وتردي الأوضاع الاقتصادية، غُيّب الموضوع عن الإعلام، وهو أمرٌ يرجعه بعض المشاركين إلى قلّة الوعي بخطورة «الخدمة المدنية»، بما تعنيه من تدرّج في مراحل التطبيع، و«تلاعب بالوعي الفلسطيني الذي تغيّرت مفاهيم أساسية فيه جراء اتفاق أوسلو، وما أنتجه من واقع اقتصادي يقوم على الربط القسري بين معيشة بعض الفلسطينيين ومصالح من يحتلّ أرضهم».

امتيازات «الخادمين الوطنيين»
لكن، ما هي «الخدمة المدنية» الإسرائيلية؟ في تتبّع الجذور التاريخية لهذا المشروع، يتبيّن أنه بديل لامتناع عدد كبير عن التجنيد، خاصة طائفة «الحريديم» التي تمتنع عن الخدمة العسكرية من أجل التفرّغ لدراسة «التوراة». لذلك، مثّلت هذه الخدمة حلّاً للمتديّنات اللاتي لا يخدمن عسكرياً. في الوقت نفسه، لا يمكن فصله عن واقع فلسطينيي الـ48 وموقفهم من المجتمع الإسرائيلي عامةً والخدمة العسكرية في جيش العدو خاصة، ليكون هذا المشروع مَنْفذاً لدمج بعض فلسطينيي الـ48 في مؤسسات الدولة، لا في مجتمعها فقط.
إذا أتمّ المشارك عامَي الخدمة يحصل على امتيازات المجنّد الإسرائيلي


أمّا كيف نجح «الدمج»، فذلك جاء من طريق منح بعض الامتيازات «للخادمين الوطنيين»، كتلك التي تُعطى للمجنّد المسرّح. ووفق موقع «كول زخوت» [كل حق] العبري، يحظى منتسبو «الخدمة المدنية» بعد إنهاء خدمتهم بمنح وقروض تعليمية وتسهيلات للقبول في وظائف حكومية وغيرها، كذلك تُدفع لهم مستحقات التأمين الاجتماعي عن سنوات الخدمة.
هكذا، تحوّل «كيّ الوعي العربي والفلسطيني» من أن يكون أيديولوجياً وإعلاميّ المظهر فقط، إلى ربط مَن هو واقع تحت الاحتلال منذ عقود بالمصالح المباشرة لِمَن يحتلّه، مقابل «امتيازات» مادية تكفل حلّ بعض أزمات الإنسان الفلسطيني المعيشية، مع أنها من صنع من احتلّه!

التطبيق في القدس
كحال آلاف الشبّان في المناطق المحتلة عام 1948، الذين «تطوّعوا» لهذه الخدمة عن وعي أو من غير وعي، يستطيع كل مقدسي حامل لبطاقة الإقامة، ويبلغ من العمر 18 إلى 23 عاماً، أن يؤدي «الخدمة المدنية» لعامين كاملين، وذلك بوضع قوة عمله تحت تصرّف بعض مؤسسات الأمن، أو جهاز الإطفاء أو المستشفيات أو المدارس وحضانات الأطفال، وحتى المجالس البلدية والمكتبات. ولتخفيف وقْع الصورة الحقيقية، وهي «صهر الفلسطيني في الكيان القائم على سحق تحقّقه الوطني ووجوده الكامل على أرضه» كما يقول الداعون إلى المقاطعة، أُعطيت مسمّيات زائفة لتلك الخدمة، إذ تُطلَق عليها أسماء مثل «أعمال تطوعية» أو «جماهيرية».
وبصورة عامة، ينتشر الترويج لهذه الخدمة عند الشبان والشابات بعد تخرجهم من المدرسة أو الجامعة ومعاناتهم في سوق العمل. لكن ليس من السهل اعتبار الموضوع «ظاهرة»، نظراً إلى صعوبة الوصول إلى الأعداد الحقيقية والإحصاءات التي تشمل عدد المنخرطين في هذا المشروع. والمشكلة، كما يقول بعض من اكتشفوا أنهم وقعوا في هذا الفخ وقرروا ترك المشروع فور ذلك، أنه قد تكفل المسمّيات اللطيفة ابتلاع بعض الشباب المقدسيين للطُّعم. ووفق إفادات متعددة حصلت عليها «الأخبار»، مع تحفظ أصحابها على نشر أسمائهم، فإن المنتسب إلى «الخدمة المدنية» يحصل على راتب شهري ومصروف التنقل، وفي حال إتمام عامَي الخدمة، يحصل على امتيازات المجنّد الإسرائيلي الذي أدى الخدمة العسكرية، لكنها تبقى امتيازات بقوة «العُرف»، وترعاها السلطة على نحو «غير مكتوب» في أحيان كثيرة.
يقول عدد من الداعين إلى المقاطعة إنهم يجدون أنفسهم مضطرين إلى استرجاع «الحديث الأبجدي» عن ماهية إسرائيل ككيان احتلالي «زُرع عسكرياً، ولا ضامن لحياته بالمعنى الوجودي واليومي الحَرفي سوى القوة المسلحة»، ليظهر اليوم كدولة تتحدث عن «القانون» و«الشفافية» و«العدالة»، وسط أزمة حقيقية يعيشها في طبيعة التجنيد العسكري نفسه، لاعتبارات تتعلق ببعض المكونات الإسرائيلية، وأخرى ترتبط بالخوف من انتهاء عهد العقيدة العسكرية، وجنوح إسرائيليين كثر إلى وحدات غير قتالية، ليجد الفلسطيني المشارك نفسه مساهماً في إنقاذ محتلّه، عن وعي أو من دون وعي!