غزة | تركت سنوات الانقسام الفلسطيني الداخلي آثارها في النظام السياسي الذي تشكل بناءً على اتفاقية «أوسلو» مع العدو الإسرائيلي. فمنذ 2007، تعاني منظومة القضاء، التي تمثل السلطة الثالثة بعد السلطتين التشريعية والتنفيذية (الحكومة) وفق هيكلية السلطة، تشوّهاً دستورياً. وبينما شُلّ «المجلس التشريعي»، وتعاقبت الحكومات في كلّ من الضفة المحتلة وقطاع غزة أو عليهما معاً (حكومة «الوفاق الوطني» السابقة)، بقيت المنظومة القضائية تواجه الترهل وتدني ثقة الجمهور بها، مع مطالبات رسمية وأهلية بإصلاحها، إلى أن أصدر رئيس السلطة، محمود عباس، في الثامن عشر من الشهر الجاري، قرارين تحت عنوان «الإصلاح». قضى القرار الأول بخفض سن تقاعد القضاة من 70 عاماً إلى 60، فيما حُلّ بموجب القرار الثاني «مجلس القضاء الأعلى» ووُضع بدلاً منه مجلس قضاء أعلى انتقالي لمدة عام، يتولى خلاله مهمات المجلس السابق، كما عليه إعادة تشكيل هيئات المحاكم في الدرجات القضائية كافة، بالإضافة إلى ترتيب أوضاع القضاة. ويرأس المجلس الانتقالي المكون من سبعة أعضاء المستشار عيسى أبو شرار، وهو رئيس «المحكمة العليا» و«مجلس القضاء الأعلى» سابقاً. لكن القرار الأخير أثار موجة من الجدل القانوني والسياسي، فبينما رآه البعض مطلباً إصلاحياً، اعتبره آخرون «تغوّلاً لا تحمد عقباه».
أصل الإشكالية
تدنّت ثقة الجمهور الفلسطيني بقضائه خلال السنوات الأخيرة لأسباب كثيرة؛ منها طول أمد التقاضي أمام المحاكم، إذ وصل في بعض القضايا إلى أكثر من عشر سنوات، إضافة إلى الازدحام القضائي وتباطؤ العمل في دعاوى المواطنين، والأهم من ذلك شيوع الخلافات بين أطراف المنظومة العدلية. جراء ذلك، صدر قرار سابق من رئاسة السلطة في 20/1/2019 بتكليف «ديوان الرقابة المالية والإدارية» في رام الله التدقيقَ في عمل السلطة القضائية بما يشمل جلسات «القضاء الأعلى» والقرارات الصادرة عنه، وكذلك أعمال التفتيش القضائي والموازنة السنوية للمجلس، لكن الأخير حال دون أن يكمل الديوان عمله، ليسحب على إثر ذلك «ديوان الرقابة» مدققيه، ويعلن أن «القضاء الأعلى» رفض التعاون معه. في هذا الإطار، يقرّ المتحدث باسم الحكومة في رام الله، إبراهيم ملحم، في حديث إلى «الأخبار»، بأنه شابت الجهازَ القضائي «الكثير من العثرات التي كان لا بد لها من قرار رئاسي للتدخل، واتخاذ قرارات تعزز الشفافية وتقدم نموذجاً للعدالة لمنع أي نوع من التذمر لدى المتقاضين».
مع ذلك، ما إن صدر القرار الأخير بحلّ المجلس حتى انقسمت الآراء في شأنه إلى ثلاثة اتجاهات: الأول أثنى عليه بل برّره، والثاني هاجمه وشكّك في دستوريته ورأى فيه تناقضاً قضائياً، فيما جاء الثالث موافقاً على المضمون معترضاً على الآلية والأداة. المحامي نائل الحوح (من المكتب الحركي للمحامين التابع لحركة «فتح» في نابلس) كان من الذين هاجموا القرار، قائلاً إن أصل الإشكالية هو «غياب جميع صور الديموقراطية في غزة أو الضفة، والفراغ السياسي في الشأن المحلي». يشرح الحوح أن هناك إجماعاً ــــ على الأقل في الضفة ــــ على وجود حالة من «الترهل القضائي» والتصارع على المراكز المتقدمة في القضاء، مشيراً إلى أن الواقع الذي يفرضه العدو الإسرائيلي ويجعل السلطة التنفيذية محصورة التحرك في مناطق محدودة من الضفة (المسماة مناطق أ)، أدى إلى تراكم القضايا بسبب شبه استحالة توصيل البلاغات إلى الأطراف المتخاصمة. وبينما لا ينفي المحامي «حالات التسلط الإداري بسبب غياب الرقابة على الأداء القضائي»، يرى أن هناك ثُغَراً في قرارَي الرئيس؛ «فأبو شرار المعين لإدارة القضاء يبلغ من العمر 82 عاماً، وهذا يناقض معيار السن الذي حدده القانون الأول بـ 60 عاماً، وأيضاً من تم استحقاقهم للقضاء في المجلس البديل كانوا يتقلدون مناصب قضائية في السابق، الأمر الذي يثير الشك في قدرة هذا المجلس على التغيير والإصلاح».
سبق أن كُلّف «ديوان الرقابة» متابعة القضاء لكن الديوان أعلن عجزه


في المقابل، أصدرت «نقابة المحامين» (مركزيتها رام الله) بياناً رحبت فيه بقرارات عباس. ويقول أمين السر في النقابة، داود درعاوي، لـ«الأخبار»، إن القرار لا يعني حلّ المجلس القائم، بقدر ما هو تعيين لمجلس انتقالي يدير إصلاح الجهاز القضائي، مضيفاً: «القرار على درجة كبيرة من العقلانية لأن له علاقة بالانقسام السياسي المستمر والحالة التي وصل إليها النظام السياسي». وفي شأن دستورية القرار، يعتبر أن «الجو المحيط بالقرار غير دستوري، لكن واقعياً لا بد من الذهاب إلى مجلس انتقالي كممرّ إجباري لإطلاق عملية الإصلاح... منذ 2007 ونحن معتادون حكم الاستثناء لا القانون». واستدرك: «هناك تحديات أمام المجلس الانتقالي، أولها مدى توافر الضمانات لإنجاح عمله، وعدم تدخل السلطة التنفيذية في مهمات القضاة أو محاولتها فرض إملاءات في ما يتعلق بالتعيينات، إضافة إلى خلل المعايير الأمنية في التعيينات»، في إشارة إلى قضية معروفة وهي أن رضى الأجهزة الأمنية عن القضاة من أهم شروط التعيين. التحدي الثاني، وفقاً لدرعاوي، هو «مدى جاهزية الحكومة لتوفير متطلبات الإصلاح من موازنات معلنة، وتحسين الظروف المعيشية للقضاة الذين لم يطرأ على رواتبهم أي تغيير منذ 2002... التحدي الثالث ألّا تكون هناك تغييرات بنيوية في قانون السلطة القضائية من دون وجود مجلس تشريعي». يُذكر هنا أن أول قرار عُرض على «المحكمة العليا» بعد الانقسام السياسي كان مشروعية القرارات التي تصدر عن رئيس السلطة وفقاً للمادة 43، وعليه أصدرت «العليا»، بصفتها الدستورية، قانوناً بأنه «لا معقبَ على قرارات الرئيس وسلطاته باستخدام المادة 43 في ما يتعلق بإصدار قرارات بقوانين، باستثناء حالة وحيدة هي تعديل القانون الأساسي».

«تغوّل» سلطوي
ترى مجموعة من القانونيين إشكالية في قرارات عباس. من هؤلاء مدير «المركز الفلسطيني لاستقلال المحاماة والقضاء» (مساواة)، إبراهيم البرغوثي، الذي يصف ما صدر من قوانين بأنه «مجزرة لمستقبل القضاء وإجهاض للعقيدة القضائية المبنية على استقلال القضاء، لأن الإصلاح يجب أن يتم بتوافق مجتمعي كون القضاء سلطة مستقلة لا دائرة من دوائر السلطة التنفيذية». ويقول لـ«الأخبار»: «الرئيس لا يقرر في هذا الشأن، بل يصدر قراراً باعتماد ما يختاره الناس. يجب أن يكون الاختيار ضمن منظومة من المعايير الدولية التي لا تستند إلى الانتقام أو الاستبعاد، بل إلى شروط الوظيفة القضائية في منظومة العدل الرسمية»، مشدداّ على أن «الأزمة أزمة نظام سياسي كامل لا القضاء فقط. الحل المقبول شعبياً هو تمكين الجمهور من اختيار من يمثله في المجلس التشريعي والرئاسة عبر انتخابات عامة». يشار إلى أن الرئيس الحالي لـ«الانتقالي»، أبو شرار، كان قد شغل منصب رئيس «مجلس القضاء الأعلى» من 2005 حتى 2009، كما أن اختياره جاء من دون ترشيحات، بل جرى بسرية تامة من دون الإفصاح عن الأسماء المختارة قبل التوقيع. ولذلك يرى البرغوثي أن ما يحدث «تكريس لتبعية القضاء للسلطة التنفيذية، ويلغي أي فرصة لاستقلال القاضي الذي سيكون أمامه الولاء لتعليمات مجلس القضاء أو التعرض للعبث في استقراره الوظيفي، وصولاً إلى حدّ العزل الوظيفي».
ويبلغ عدد القضاة في غزة والضفة 250، سيُحال 50 منهم على التقاعد. وبسبب أحداث الانقسام، لا يمارس القضاة من موظفي السلطة في غزة عملهم بعدما أصدر «أبو مازن» قراراً بمنعهم من العمل لدى المؤسسات التي سيطرت عليها حكومة «حماس». وبالمثل، لا تشارك «حماس» أو «الجهاد الإسلامي» في انتخابات «نقابة المحامين» في غزة التابعة لرام الله، وبذلك صار في القطاع تياران للعمل النقابي للمحامين: الأول تابع لـ«حماس»، والآخر لتيار «منظمة التحرير». وجراء ذلك، لا تواصل قضائياً بين غزة والضفة، في وقت تبقى فيه «نقابة المحامين» في غزة «شعرة معاوية» بين الجانبين مع ميلها أكثر إلى تعميمات رام الله.
مع ذلك، أثار القرار موجة من الامتعاض في غزة. إذ يرى المتحدث باسم «حماس» في القطاع، عبد اللطيف القانوع، أن هذا «جزء من سياسة عباس الاستبدادية والإقصائية تجاه الفصائل، لضرب حالة الإجماع الوطني والدعم الشعبي للشراكة السياسية». ويضيف القانوع، في حديث إلى «الأخبار»، إن ما يحدث «تعدٍّ على النظام السياسي الفلسطيني، ولا سيما أن هذه الخطوة سبقها حل المجلس التشريعي في غزة بمراسيم رئاسية (عبر قرار من «الدستورية» في 22/12/2018)». أيضاً، ينبّه عضو المكتب السياسي في «حزب الشعب» وليد العوض، إلى أن «الطريقة التي تم بها حلّ مجلس القضاء السابق، وفي ظلّ غياب المجلس التشريعي، يمكن أن تعزز سيطرة السلطة التنفيذية على مفاصل الحياة المجتمعية، ولا تساعد على سلامة بنية النظام السياسي الفلسطيني»، ولذلك «كان يجب أن يمرّ الأمر عبر إجراءات دستورية وقانونية داخل جسم القضاء نفسه وبترشيحاته وتوصياته». في المقابل، قال أمين السر لـ«هيئة العمل الوطني»، محمود الزق، إن «الرئيس له الصلاحية الكاملة في اتخاذ أي إجراء طالما الأمر يتعلق بإصلاح المنظومة القضائية».



عباس يجهز على مستشاريه فجأة

(أ ف ب )

ضمن الإجراءات «الإصلاحية» التي تروّج لها السلطة الفلسطينية، قرر محمود عباس، في التاسع عشر من الشهر الجاري، على نحو مفاجئ، إعفاء مستشاريه من مهماتهم، وإرجاع «الأموال المهدورة» في حكومة رامي الحمدالله السابقة، والتي كانت نتيجة قرار بزيادة رواتب الوزراء. وكما موضوع القضاء، لقيت خطوة عباس هذه ترحيباً من جهات ورفضاً من أخرى، فيما رآها البعض «متأخرة» وتحاكي مرحلة البقاء. وفي تفاصيل القرار، قالت «وكالة الأنباء الفلسطينية الرسمية» (وفا) إن عباس قرر إلغاء العمل بالقرارات والعقود المتعلقة بمستشاريه البالغ عددهم تسعة، وإيقاف الحقوق والامتيازات المترتبة على صفتهم كمستشارين، فيما لم يوضح البيان الأسباب. أما الحمدالله فأشاد بقرار إرجاع الأموال الذي بدأ وزير المال الحالي وفي عهده، شكري بشارة، العمل عليه مباشرة.