في فصل عنوانه «فلسطين أو الأرجنتين» من كتاب تيودور هرتزل «الدولة اليهودية»، أكد مؤسس الحركة الصهيونية أنه إذا ساعدت بريطانيا في إنشاء هذه الدولة، فإنها ستكون «القلعة المتقدمة لأوروبا في مواجهة آسيا البربرية». جميع قادة الحركة الصهيونية وقادة الكيان الذين تلوهم حرصوا دوماً على هذا الدور الوظيفي في إطار الاستراتيجية العامة للقوة الغربية المهيمنة: بريطانيا بداية، وبعدها فرنسا منذ أوائل الخمسينيات وحتى بداية ستينيات القرن الماضي، ومن ثم الولايات المتحدة.الحروب التي شنّها الكيان على دول المنطقة وشعوبها اندرجت في سياق استراتيجية إحكام السيطرة الأميركية عليها، وشكّل عدوان حزيران 1967 على مصر الناصرية انتقالاً في العلاقة الأميركية - الإسرائيلية إلى مستوى التحالف العضوي، وتكريساً لدور إسرائيل باعتبارها القلعة أو القاعدة العسكرية المتقدمة للولايات المتحدة في الإقليم. لكن التطورات اللاحقة التي طرأت في خضمّ الصراع العربي - الصهيوني، بدءاً بحرب أكتوبر 1973، مروراً باجتياح لبنان عام 1982 وما تخلّله من صمود في بيروت وما تبعه من مقاومة باسلة في الجنوب اللبناني، ووصولاً إلى هزيمة عدوانها في 2006 وحروبها المتتالية ضد غزة في 2008 و2009 و2012 و2014، فرضت على إسرائيل انسحاباً من دون قيد أو شرط من لبنان في أيار 2000، وأظهرت التراجع المستمر في الأداء العسكري للقلعة المزعومة وعجزاً متعاظماً عن القيام بالدور الذي وُجدت لأجله من منظور رعاتها الغربيين. لم يعد سراً اليوم أن الحرب الأميركية على العراق في 2003 كانت أولاً وأساساً من أجل إسرائيل، وأن التصعيد الحالي ضد إيران، واحتمالات الذهاب إلى الحرب معها، مرتبطة بالأسباب نفسها. بكلام آخر، بات الأصيل، أي الولايات المتحدة، ملزماً بالتدخل مباشرة لإنقاذ الوكيل، إسرائيل، ومنع تغيير موازين القوى لغير مصلحته. أول من روّج لفكرة أن إيران وحلفاءها في محور المقاومة أصبحوا يمثلون تهديداً استراتيجياً بالنسبة إلى إسرائيل، رئيس وزرائها الحالي، بنيامين نتنياهو، وحلفاؤه من الصهاينة الهستيريين في الولايات المتحدة. وبمعزل عن حقيقة أن تطوير القدرات الصاروخية والعسكرية لأطراف المحور سيتيح مستقبلاً شلّ قدرة الكيان على المبادرة إلى الحرب والعدوان، فإن التهويل بلا انقطاع الذي يقوم به هذا الفريق، له انعكاسات سلبية على سمعة «إسرائيل - القلعة»، خاصة إذا تلازم مع أداء عسكري بائس لجيشها في مواجهة الأعداء. أوساط صهيونية، وأخرى في اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة، مدركة لهذه الانعكاسات ولما قد يترتب عليها بالنسبة إلى إسرائيل، تحاول اليوم إعادة الاعتبار لسمعتها، مصرّةً على أنها ما زالت قادرة على القيام بالدور الذي وجدت لأجله على أكمل وجه.
إسرائيل تحاول اليوم التأكيد أنها ما زالت قادرة على القيام بالدور الذي وُجدت لأجله


بعد هزيمة العدوان الصهيوني على لبنان عام 2006، كتب مارتن كرايمر، الخبير الإسرائيلي المتخصص بشؤون الإسلام السياسي، مقالاً في دورية «آزور»، للتأكيد أن إسرائيل ورقة قوة استراتيجية للولايات المتحدة، ولم تتحول إلى عبء عليها، كما اعتبر جون ميرشايمر وستيفن والت في مقال نشراه آنذاك في «فورين أفيرز». ردود الفعل العديدة على المقال دفعت الخبيرين إلى وضع كتابهما الشهير: «اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأميركية»، حول الموضوع إياه. المقابلة التي أجراها الصحافي الإسرائيلي، زيف شافيت، على موقع «بلومبيرغ»، مع إسحاق بن إسرائيل، والمعنونة «إسرائيل ليس لديها الكثير لتخشاه من إيران»، تنطلق من الهاجس نفسه. إسحاق بن إسرائيل جنرال سابق في سلاح الطيران في الجيش الإسرائيلي الذي خدم فيه 32 عاماً، وأحد «نجومه». فهو الذي أشرف على خطة تدمير المفاعل النووي العراقي عام 1981، وحاز ثلاث مرات جائزة الجيش الأولى تقديراً لدوره في تطوير منظومات سلاحه، وكان قبل تقاعده مديراً لإدارة البحث والتطوير المشتركة بين الجيش ووزارة الدفاع. يقول بن إسرائيل إن «هناك فرقاً كبيراً بين طموحات إيران وقدرتها على تحقيقها... سلاح الطيران الإيراني يجب أن يكون في متحف، لا أن يستخدم خلال حرب، وبحريتها لا تستطيع حتى التحكم في مضيق هرمز. قدراتها العسكرية التقليدية لا تشكل تهديداً جدياً لإسرائيل». ورداً على سؤال عن تموضعها مع حلفائها في سوريا، يرى بن إسرائيل أن «الجيش الإسرائيلي يجهد لوقف هذا الانتشار. الكثير من عملياته لم يرفع عنها الستار، على الرغم من أن إسرائيل جهرت ببعضها أخيراً... الاستراتيجية التي يعتمدها صائبة، وعملياته نُفذت جيداً. لن تسمح إسرائيل لإيران ببناء جيش في سوريا يهدد حدودها ويؤمن خطوط إمداد حزب الله. هي تستطيع منع ذلك من الحصول». أما بالنسبة إلى الصواريخ التي يمتلكها حزب الله، فهو يجزم بأن غالبيتها غير موجهة وغير فعالة، وأن الجيش الصهيوني قادر على كشف وتدمير بضع مئات من الصواريخ الموجهة التي ليس لدى الحزب سواها بحسبه.
الخفّة التي يتناول بها بن إسرائيل قضية بخطورة تطوير أطراف محور المقاومة لقدراتهم الصاروخية كمّاً ونوعاً، وكلامه اليقيني على نجاح الجيش الإسرائيلي في وقف هذه العملية، وثقته العمياء بمعلوماته عن عدد الصواريخ الموجهة لدى الحزب وبنجاح إسرائيل في تدميرها، جميعها شواهد على عدم جدية تحليله، وعلى أن غايته هي إعادة الاعتبار لسمعة إسرائيل في الولايات المتحدة كقوة عسكرية عالية الفعالية، قبل أي اعتبار آخر. فحتى لو سلّمنا جدلاً بأن عدد الصواريخ الموجهة لا يتجاوز المئات، فإن قدرة محور المقاومة على إمطار إسرائيل بآلاف الصواريخ غير الموجهة ستحدّ من فاعلية منظومات الدفاع المضادة للصواريخ لديها، وتلحق ببناها التحتية وبمناطق التجمع البشري وتمركز الصناعات والتكنولوجيا، كغوش دان مثلاً، خسائر فادحة. تجاهل الجنرال السابق للتهديد الذي تمثله القوة الصاروخية وتطورها المستمر، ونتائجهما على ميزان القوى وعلى إمكانية ردع إسرائيل عن المبادرة إلى الحرب، يوضح الأهداف الدعائية لمقابلته ولمن نشرها، أي «بلومبيرغ».
فكتور دافيس هانسون، وهو مؤرخ يميني متشدد أميركي مؤيد لترامب ولإسرائيل ومؤلف كتاب «النمط الغربي في الحرب»، يحاول الدفاع عن أهمية دور إسرائيل الاستراتيجي بأسلوب مختلف، من خلال التركيز على دورها المحوري في مواجهة تغيّر المشهد الإقليمي في الشرق الأوسط، واحتمال قيام تحالف إيراني - تركي يسيطر على الشرق الأوسط. ويشير هانسون إلى أن «إيران وتركيا، على مستوى قدراتهما التقليدية والاستراتيجية، أقوى كثيراً من العالم العربي بمجمله، وحتى الآن، أكثر جنوناً. وفي ظل عقيدة الواقعية الاستراتيجية التي يعتمدها ترامب، من الصعب تصور أي سيناريو تدخل أميركي في الشرق الأوسط لمصلحة أي دولة عربية مهددة، وهو أمر يعرفه الأصدقاء والأعداء على حد سواء». ما لا يقوله هانسون مباشرةً، أن التصدي لمشروع السيطرة المزعوم سيقع على عاتق إسرائيل، التي ستنسج لذلك تحالفات مع دول عربية بدعم من الولايات المتحدة. أنصار إسرائيل الكثر سيستمرّون في مساعيهم لتلميع صورتها كقلعة عسكرية، لكن مهمتهم ستزداد صعوبة أمام تطورات من نوع إخلاء الجيش الإسرائيلي للعديد من مواقعه على الحدود مع لبنان، وتوقفه عن القيام بدوريات قريباً منها، خوفاً من التعرّض لنيران حزب الله. هؤلاء جنود أم بائعو ورود؟