يُحسب لإدارة دونالد ترامب أنها اختارت التوقيت المناسب لتسليط الضوء نحو الخارج، علّها تمتصّ بعضاً من ضغوط الداخل، إزاء الحملة المتصاعدة في سياق إجراءات محاكمة الرئيس الأميركي في الكونغرس. إجراءاتٌ، وإن اتّخذت طابعاً فولكلورياً يدلّ على الهزائم المتتالية للحزب الديموقراطي غير القادر على إيجاد منافسٍ حقيقي لترامب، إلا أنها تشكِّل، في الوقت ذاته، قلقاً لدى الإدارة مِن تنامي الغضبة الشعبية ضدّ رئيسٍ لا همّ راهناً لديه سوى الفوز بولاية رئاسية ثانية. هكذا، كلّما اشتدّ الخناق على ترامب داخلياً، سارع إلى اتخاذ قرارات «خارجية» لشدّ عصب كتلته الناخبة الأكبر، وعمادها «الإنجيليون» المحافظون.من هنا، لا يمكن قراءة الخطوة الأميركية في شأن شرعنة الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية المحتلة، بمعزل عن الحسابات الانتخابية لإدارة ترامب، قبل عام واحد من الاستحقاق الرئاسي. خطوةٌ جاءت توازياً مع بدء مجلس النواب الأميركي جلسات علنية في إطار التحقيق الهادف الى عزل الرئيس، بشبهة استغلال السلطة «من أجل أهداف شخصية»، في ما بات يُعرف بـ«القضية الأوكرانية». لذا، كان لا بُدّ من خطوة إضافية في سياق استرضاء الإنجيليين المحافظين ــــ الذين شكّلوا رافعة رئيسية لصعود ترامب عام 2016 ــــ، بما يتناسب ومعتقدات هذه الفئة التي تتمتّع بعلاقات مميّزة مع إسرائيل وتضع نصب أعينها دعم الكيان وتقويض أيّ حراك يمكن أن يمثّل تهديداً له. ولعلّ ما قاله السيناتور بيرني ساندرز ــــ الذي ينافس للفوز بترشيح الحزب الديموقراطي ــــ، عن كون القرار الأخير لترامب «يعزل واشنطن ويقوّض الدبلوماسية لإرضاء قاعدته المتطرفة»، يفسّر جلياً ما يصبو إليه الرئيس.
كلّما اشتدّ الخناق على ترامب داخلياً، سارع إلى اتخاذ قرارات «خارجية» لشدّ عصب كتلته الناخبة الأكبر


يمكن النظر إلى العلاقة النديّة التي تجمَع ترامب بالإنجيليين على قاعدة تبادل المصالح. في مؤتمر سنوي ينظّمه إنجيليون بعنوان «قمّة ناخبي القِيَم»، وضع القسّ الإنجيلي الشهير، أندرو برونسون، يده على كتف ترامب، سائلاً الربّ أن «يمنح الرئيس معرفةً غيبية ليعلَم من هم أهلٌ للثقة ومن ليسوا كذلك، وليفضح الربّ ويُبطل خطط أولئك الذين يتربّصون سوءاً بالرئيس وبالبلد». ولأجل هؤلاء، قاد ترامب معركة لاستعادة برونسون من تركيا، حيث كان موقوفاً على ذمة قضية تتعلّق بالانقلاب الفاشل صيف عام 2016. خلال القمّة التي عُقدت في منتصف تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، ألقى الرئيس الأميركي خطاباً طويلاً استمرّ لأكثر من ساعة، ليجدّد العهد لهذه الفئة الناخبة باعتبارها تحمِل مفتاح فوزه بولاية ثانية. راح يتحدّث عن القيم المسيحية الأميركية وعن ضرورة الاتحاد في جولة جديدة لهزيمة «الاشتراكيين واليسار المتطرّف». علاقة «المصالح» هذه تدفع أيضاً برموز في المجتمع الإنجيلي لنصرة الرئيس قبل الانتخابات، وخصوصاً في وقت يواجه فيه محاولات حثيثة لإخضاعه من قِبَل خصومه الديموقراطيين. من بين هؤلاء، يبرز «ائتلاف الإيمان والحرية»، أكبر منظمة للمسيحيين «الإنجيليين» في الولايات المتحدة، ورئيسها رالف ريد الذي يرى في دعم ترامب «واجباً أخلاقياً» على الأميركيين الإنجيليين الالتزام به.
مهّدت الإدارة الأميركية لقرار شرعنة الاستيطان في غير مناسبة: في المرّة الأولى، حين لمّح وزير الخارجية، مايك بومبيو، في آذار/ مارس، إلى أن «خطة السلام» (صفقة القرن) ستتضمّن قطيعةً مع التوافق التقليدي إزاء قضايا رئيسية مثل القدس والمستوطنات واللاجئين الفلسطينيين؛ وفي المرّة الثانية، عبر سفيرها لدى إسرائيل و(أحد مهندسي الصفقة)، ديفيد فريدمان، حين قال إن «من حقّ إسرائيل ضمّ بعض أجزاء الضفة»، وبدا أن فريدمان لم يكن يقدح من رأسه بقدر ما كان يعلن عن خطّة معدّة سلفاً. في حيثيات قرارها الذي جاء على لسان وزير الخارجية مايك بومبيو، ركنت الإدارة الأميركية إلى تسويغ خطوتها من منطلق فشل ما جرّبته كلّ الإدارات المتعاقبة. انطلقت ممّا وصفته بـ«الأمر الواقع». التعليل ذاته ساقته هذه الإدارة على دفعات، وترجمته على أرض الواقع بدءاً بنقل سفارتها إلى القدس المحتلة واعتبارها عاصمة لإسرائيل، ووقف كل أشكال المساعدات للفلسطينيين، وإعلان سيادة إسرائيل على الجولان، وصولاً إلى إعلانها أن «إنشاء مستوطنات لمدنيين إسرائيليين في الضفة الغربية لا يتعارض في حدّ ذاته مع القانون الدولي». الإعلان الذي لم يكن سوى «عودة» إلى تفسير للرئيس الأسبق رونالد ريغان في مطلع الثمانينيات، وفق بومبيو، يمثّل قطيعةً وخصوصاً مع إدارة الرئيس السابق باراك أوباما التي سمحت، في أيامها الأخيرة، بإمرار قرار يرى أن المستوطنات تُعدُّ «انتهاكاً صارخاً» للقانون الدولي. اعتمدت السياسة الأميركية، لغاية الآن، وإن نظرياً، على رأي قانوني لوزارة الخارجية يعود إلى عام 1978، يقول بأن «إقامة مستوطنات سكانية في هذه الأراضي» الفلسطينية «ليس مطابقاً للقانون الدولي»، لكن بومبيو قرّر أن هذا الرأي سقط بالتقادَم، لأن «الحقيقة هي أنه لن يكون هناك أبداً حلّ قانوني للنزاع، وأن الجدل حول من هو محقّ، ومن هو مخطئ في نظر القانون الدولي لن يجلب السلام».