تبدو الخليل عيّنة مصغّرة من الضفة المحتلة التي قطّع أوصالَها الاستيطانُ الإسرائيلي. بعد خمسين عاماً على «نكبة 1967»، ثم مجزرة الحرم الإبراهيمي، باتت البلدة القديمة في الخليل كناية عن مشروع استيطاني لا يُلجم توسعه. المشروع أَفرغ البلدة من ساكنيها وحرفيّيها، وبدّل أسماء شوارعها وملامح أحيائها، ولا يبدو أن قرار نفتالي بينِت قبل أيام هدمَ سوق الجملة وبناء وحدات استيطانية مكانه سيكون آخر محطّاته.على أحد المباني في سوق الجملة في البلدة القديمة في الخليل، والذي تخطّط وزارة الأمن الإسرائيلية منذ أشهر لهدمه، نشرت «لجنة الجالية اليهودية في الخليل» لافتات تحمل صور منظّر الحركة الصهيونية، زئيف جابوتنسكي، كتب عليها: «نبني من جديد المربع اليهودي (السوق) في الخليل»، فيما ذُيّلت لافتات أخرى تحمل صورة جابوتنسكي أيضاً بعبارة منسوبة إليه تقول: «سنعيد بناء كلّ ما دُمّر، لأننا بهذه المهارة تَميّزنا؛ لنبني على نطاق واسع كلّ ما محوه ودمروه». تهديدات دأب مستوطنو الخليل ومساعدوهم الكُثر، على مدار الأعوام الخمسين الماضية، على ترجمتها، عبر تفريع المباني الفلسطينية وبناء الوحدات الاستيطانية لليهود مكانها. ولأن المستوطنين والجيش، وما يُعرف بـ«الإدارة المدنية»، سعوا إلى تفريغ البلدة القديمة في الخليل من أهلها، عبر مضايقتهم يومياً وحواجز الإذلال الثابتة والمتنقلة، لم تحمل اللافتات التي انتشرت على مدخل «الجملة» أيّ مفاجأة، على الأقلّ لمن يعيشون هناك. لكنها قد تكون مفاجِئة فقط إذا ما عُرف أنها مجرد بداية لمخطط أوسع بكثير. إذ سبق تعليقَها بأيام كِتابٌ بعثه وزير الأمن، نفتالي بينت، إلى منسق «الإدارة المدنية» في الضفة المحتلة، طالب فيه المدير الإقليمي ببدء إجراءات الإخلاء والهدم لعدد من المباني، ومن ضمنها مبنى عائد إلى البلدية الفلسطينية في المدينة، وإنشاء وحدات سكنية لليهود على أنقاضه.
أُفرغ ثلث المنازل البالغ عددها 3400 داخل البلدة القديمة من السكان


ما الذي يخطط له المستوطنون؟ في عام 2014، نشرت «لجنة الجالية اليهودية في الخليل» كتيّباً بعنوان «كهف البطاركة: جذور الشعب اليهودي الأول». يتضمن هذا الكتيّب، الذي لا يزال يُباع في كشك صغير أمام المسجد الإبراهيمي، خريطة لثلاث مناطق بألوان مختلفة (H1 وH2 ومستوطنة كريات أربع)، يمكن للناظر إليها أن يخلص إلى حقيقة تفيد بأن الأطماع التوسّعية للمستوطنين في الخليل لا يمكن لجمها. تظهر الخريطة تبديل أسماء الشوارع في منطقة الحرم الإبراهيمي، بحيث يصبح شارع الشهداء مثلاً «داود الملك»، فيما يضحي آخر باسم «ترباط» (في إشارة إلى أحداث 1929 كما تُسمى عبرياً، وثورة البراق فلسطينياً). تبديل يمتدّ أيضاً إلى خارج منطقة الحرم، ويصل إلى عمق البلدة القديمة، بحسب ما يظهره تقرير نشرته صحيفة «هآرتس» أمس. ولئن بقي شارع بئر السبع على حاله، وفقاً للتقرير، إلا أن شارع «شلالا الكبير» بات «حاييم يوسف ديفيد أزولاي»، و«شلالا الصغير» أصبح «ناتان تسافي بينكل». أمّا شارع الملك حسين، فأضحى «الهيكل». و«عين سارة»، الذي هو طريق طويل ورئيس مفعم بالحياة وفيه مبنى بلدية الخليل، تغيّر اسمه في الخريطة إلى «كنيست إسرائيل». وفي مقدّمة البلدة القديمة، تحوّل «باب الزاوية إلى شارع باسم الحاخام والمتحدث بلسان «الجالية اليهودية في الخليل»، نعوم أرنون، فيما باتت مستديرة ياسر عرفات «يوفال»، ومستديرة المنارة «بأيار».
لا يمكن اعتبار تهويد الشوارع في الخليل، وفق ما هو موجود في خريطة الكتيّب، مجرّد هذيان أشخاص غريبي الأطوار. فالواقع أنه في الخليل القديمة، وتحديداً الجزء الذي يسيطر عليه المستوطنون، فُصل قلب المدينة عنها. والدليل أن السفر بالسيارة ممنوع على الفلسطينيين (يحق، فقط، لسيارات جمع القمامة التابعة للبلدية، والتي تجمع أيضاً قمامة المستوطنين، الدخول عبر الحاجز إلى حي سلايمة)، فيما يُحظر في شارع الشهداء المشي على الأقدام حتى لسكان المنطقة نفسها. وهناك أيضاً نحو عشر نقاط تفتيش مأهولة تغطي المنطقة، وهي مبنيّة من العوازل المعدنية المحصّنة وبوابات دوّارة وممرّات تحيط بها القضبان، وذراع مانع يُرفع من أجل من يريدون الدخول مِن العجزة وذوي الإعاقة مِمَّن يستخدمون الكراسي المتحركة. في هذه النقاط العشر، يتمركز جنود ورجال شرطة يذلّون الناس بالانتظار إلى حين فتح البوابة الدوّارة، كما توجد عشرات الحواجز الثابتة على شكل جدران من الاسمنت، والأبواب المغلقة التي تفصل بين الشوارع والأزقة. وبالإضافة إلى ما تقدّم، ثمة دروج عبور رئيسة ممنوع على الفلسطينيين العبور من خلالها. ولذا، لا عجب إن كان ثلث المنازل البالغ عددها 3400 داخل البلدة القديمة قد أُفرغ من قاطنيه على مدى سنوات، وأن 1500 مصنع أُغلقت أبوابها خلال السنوات العشرين الأخيرة: ثلثها بأمر عسكري، والبقية بسبب التضييق اليومي من المستوطنين والجيش على حركة التجارة والصناعة.
مثالٌ آخر على تلك المضايقات التي لا تتوقف هو ما حدث يوم الجمعة الماضي. فبينما كانت سيارات إسرائيلية وحافلات لـ«شركة تطوير غوش عصيون» تسافر ذهاباً وإياباً بحرية، كان المصلّون الفلسطينيون، ومن بينهم شيوخ، يسيرون ببطء وتعب نحو الحرم الإبراهيمي ويعودون منه. يصف أحد سكان تل إرميدة، الذي «تجرّأ» على البقاء في بيته داخل المنطقة، الوضع بأنه «مثل حظر التجوّل». ووفق ما نُقل عنه، فإنه من أجل الخروج من بيته والدخول إليه لمرّات في اليوم، يجب عليه المرور عبر حاجز «تمار العسكري» القائم على بعد 30 متراً (من بيته)، وانتظار الجندي إلى أن يضغط على الزرّ الذي يفتح البوابة الدوّارة التي تؤدي إلى غرفة مغلقة يفحص فيها بطاقة هويته، وربما يفتش ملابسه، ثم يفتح له بوابة حديدية أخرى تؤدي إلى مدخل محاط بالقضبان يؤدي بدوره إلى بوابة دوّارة أخرى.
الكتيّب المنشور عام 2014 أُصدر لذكرى من كان ينادي بترحيل الفلسطينيين، وزير السياحة الإسرائيلي رحبعام زئيفي، الذي اغتالته «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين». الكُتيّب «يتخيّل» توسيع الدوائر البديلة التي ستُخلى من الفلسطينيين. ومَنْ خَطّ الكُتيّب أثبت حتى الآن قدرته على ترجمة الخيال الاستيطاني إلى واقع، تبدو فيه الخليل كأنها «في أيام الهيكل الثالث».