أجمع الفلسطينيون بقلب رجل واحد على رفضهم «صفقة القرن»، وقرارهم مواجهتها بشقّيها السياسي والاقتصادي مهما كلف الأمر. المشهد حتى أمس كان متابعاً لإعلان الصفقة التي احتاج عرضها وفهمها إلى ساعات من بعد مؤتمر دونالد ترامب، واقتصر الوضع الميداني على مسيرات في الضفة وغزة، وعقد اجتماع طارئ في رام الله بمشاركة لافتة من «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، في وقت سارعت فيه إسرائيل إلى إعلان جملة تسهيلات اقتصادية لغزة نُظر إليها على أنها محاولة لشراء الهدوء. لكنّ ما أوجع الفلسطينيين أكثر هو الخيانة العربية الواضحة، ليس بالمشاركة في المؤتمر أو المواقف العلنية المرحبة بالصفقة فحسب، بل بظهور الأيادي العربية في صياغة بنود الخطة الأميركية، بل تمويلها بالمليارات!لأول مرة منذ سنوات، تَجمع «فتح»، ورئيسها، محمود عباس، الفصائل كافة في اجتماع قيادي في رام الله. شاركت كل من «الجهاد الإسلامي»، و«حماس» التي دعيت إلى الجلسة بصورة علنية في خطوة ثمّنتها، مؤكدة حضور ممثليها على رغم أن الدعوة لم تأتِ بمخاطبة رسمية، بل جرى الاتصال بأشخاص محددين. مع هذا، دعت «حماس» عباس إلى «حمل الراية وتوحيد الشعب الفلسطيني ومقاتلة ومواجهة الاحتلال معاً»، مؤكدة أن «بنادقها وجماهيرها مقدمة لإسقاط الصفقة». كما هاتف رئيس مكتبها السياسي، إسماعيل هنية، رئيس السلطة، مبدياً جهوزية حركته «للعمل المشترك سياسياً وميدانياً». على رغم حضور الفصائل كافة، قالت «الجهاد» إن تلبية الدعوة «ليس معناها أن هذا الاجتماع بديل من الدعوة التي أجمعت عليها القوى لعقد لقاء وطني يحضره الأمناء العامون للفصائل، لوضع استراتيجية مواجهة شاملة»، فيما دعت «الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين» إلى «تحويل قرارات الاجتماع الوطني إلى إجراءات عملية تتلاءم مع توقعات الشارع الفلسطيني والعربي، وليس مجرد قرارات كما حدث سابقاً». كذلك، رأت «حماس» أن ما أعلنه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ورئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، هو «برنامج وخطة ثنائي محور الشر في المنطقة، ووُجهته تصفية القضية الفلسطينية... هذا الإعلان سيكون مدعاة لتفجير الصراع».
وصلت إلى غزة أدوية أميركية بقيمة 600 ألف دولار ضمن جملة تسهيلات مفاجئة


في كلمته، أعلن أبو مازن رفضه للصفقة ووصفها بـ«المؤامرة»، وقال في تكرار لمواقف سابقة لم تنفذ: «سنبدأ فوراً اتخاذ كل الإجراءات التي تتطلب تغيير الدور الوظيفي للسلطة الوطنية، تنفيذاً لقرارات المجلسين المركزي والوطني»، مضيفاً: «القدس ليست للبيع، وكل حقوقنا ليست للبيع والمساومة». لكنه شدد على أن «الاستراتيجية الفلسطينية لمواجهة الصفقة ترتكز على استمرار الكفاح لإنهاء الاحتلال وتجسيد استقلال الدولة وعاصمتها القدس الشرقية»، معيداً تمسكه بـ«الشرعية الدولية». وتابع: «رضينا بالبين والبين ما رضي فينا، فقد قبلنا بـ 22% وترامب يريد أن يأخذ 40% من الـ 22%». وعلى الصعيد الداخلي، أعلن عباس «مرحلة جديدة من الحوار الفلسطيني»، و«تمسكه بإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية في الضفة والقدس وغزة»، مشيراً إلى أنه أبلغ هنية الرغبة في اللقاء به في غزة قريباً رداً على طلب الأخير عقد لقاء عاجل معه، علماً بأن رئيس «حماس» لا يزال في جولة خارجية.
وبينما كان الرد الفلسطيني، ولا سيما الرسمي، في أعلى مستوياته الخطابية، دعا أحد المشاركين في صياغة «صفقة القرن»، المبعوث الأميركي السابق لـ«عملية السلام» في الشرق الأوسط، جيسون غرينبلات، القيادة الفلسطينية إلى «دراسة الصفقة قبل رفضها»، معتبراً أن «التمرد والرفض أكبر عدو للفلسطينيين»، ومضيفاً: «أملنا أن يدرك الفلسطينيون أن الأمر يستحق العد إلى 10 قبل الرد رسمياً». وفي مقالة كتبها أمس في صحيفة «إسرائيل هيوم» العبرية، قال: «بإمكانهم (الفلسطينيين) أن يرفضوا الاتفاق وانتظار اتفاق أفضل، لكن احتمالات الانتظار ستذهب هباء. الفلسطينيون لديهم الكثير ليخسروه إذا رفضوا الخطة، لكن عليهم أن يتذكروا أنه حان الوقت لاغتنام الفرصة التاريخية، على رغم العيوب التي قد يجدها الناس».

«الأعراب أشدّ كفراً»
في المقلب الآخر، برزت الموافقة العربية العامة على الصفقة، ولا سيما من دول الخليج، السعودية وقطر والإمارات والبحرين وعمُان، علماً بأن الدول الثلاث الأخيرة أرسلت وفوداً للمشاركة في حفل إعلان الصفقة (السفير الإماراتي يوسف العتيبة، والسفير البحريني عبد الله آل خليفة، وسفيرة عُمان حنينية سلطان المغيرية)، ثم رحبت الرياض والدوحة ومعهما القاهرة، بالخطة الأميركية مع تباين في بعض الاستدراكات، ودعوة للفلسطينيين إلى دراستها. أما الموقف الأردني، فبدا خجلاً في ظل الضغوط الشعبية والتظاهرات التي جرت تزامناً مع الإعلان. هذا المشهد لاقى إشادة من ترامب ونتنياهو في الحفل أكثر من مرة، فيما دعا الأخير باقي الدول العربية للالتحاق بهم، كما ظهر تصفيق السفراء العرب أثناء الحفل أكثر من مرة، ولا سيما عندما ذكر ترامب قتل «الإرهابي العالمي الأول (الشهيد) قاسم سليماني).
وفي البيان السعودي، جاءت «الإشادة بجهود الرئيس الأميركي»، والدعوة إلى «بدء مفاوضات مباشرة للسلام بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي تحت رعاية الولايات المتحدة». كما أعلن أن الملك سلمان اتصل بعباس، وأكد له أن موقف المملكة «لن يتغير من القضية الفلسطينية»، لكن لا بد من «تحقيق السلام الشامل والعادل لأن السلام خيار استراتيجي». موقف شبيه عبرت عنه الخارجية المصرية التي قدّرت «الجهود المتواصِلة التي تبذلها الإدارة الأميركية من أجل التوصل إلى سلام شامل وعادل للقضية الفلسطينية، بما يُسهم في دعم الاستقرار والأمن بالشرق الأوسط، وينهي الصراع الفلسطيني ــــ الإسرائيلي»، داعية الطرفين المعنيين «إلى دراسة متأنية للرؤية الأميركية لتحقيق السلام، والوقوف على كل أبعادها، وفتح قنوات الحوار لاستئناف المفاوضات برعاية أميركية». مواقفُ أخرى شبيهة أعربت عنها الإمارات بما يشي بتنسيق ثلاثي، فيما قالت الخارجية القطرية إنها تقدر «المساعي الأميركية لإيجاد حلول للصراع... طالما كانت بإطار الشرعية الدولية».
وبرغم الثناء الأميركي على ملك الأردن، عبد الله الثاني، لدعمه الخطة الأميركية، علق وزير الخارجية أيمن الصفدي بأن «إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية وفق حل الدولتين هو أساس لسلام عادل وشامل»، مشيراً إلى أن مصالح المملكة العليا «هي التي تحكم تعاملها مع كل المبادرات والطروحات... نحذر من التبعات الخطيرة لأي إجراءات أحادية إسرائيلية تستهدف فرض حقائق جديدة، مثل ضم الأراضي وتوسعة المستوطنات... وانتهاك المقدسات في القدس». مع ذلك، أعلن السفير الفلسطيني لدى القاهرة، وهو مندوب فلسطين الدائم لدى جامعة الدول العربية، دياب اللوح، أن السلطة تقدمت بطلب رسمي لعقد دورة غير عادية لمجلس الجامعة على المستوى الوزاري، بحضور عباس، مشيراً إلى أن الاجتماع مقرر عقده السبت المقبل، «وسيكون بالغ الأهمية».

قرار بالمواجهة... واستدراك إسرائيلي
ميدانياً، عمّت في غزة مسيرات عدة، في وقت كثفت فيه الوحدات الشعبية إطلاق البالونات المفخخة تجاه مستوطنات «غلاف غزة»، الأمر الذي دفع المستوطنين إلى الشكوى من سماع انفجارات ضخمة فوق منازلهم، فيما تمكنت مجموعة من الشبان من قطع أجزاء كبيرة من السياج الفاصل شرق مدينة خانيونس (جنوب). كما أعلنت «لجنة المتابعة العليا للقوى الوطنية والإسلامية» الإضراب الشامل لكل مرافق الحياة باستثناء الصحة اليوم الأربعاء، داعية إلى «رفع الأعلام السوداء». ومقابل الضغط المتواصل على الحدود، يحاول الاحتلال امتصاص الغضب في غزة خشية من أن يؤدي الإعلان الأميركي إلى الانزلاق تجاه مواجهة عسكرية. ولهذا سمح على نحو مفاجئ بجملة تسهيلات اقتصادية تتعلق بدخول السلع والمواد الأساسية، كما سمح بإدخال الاسمنت تحت إشراف الأمم المتحدة، وتسويق المنتجات الزراعية التي تصدر إلى الخارج. ومن التسهيلات السماح بإدخال الأدوية على نطاق واسع، وكميات كبيرة منها كانت بتبرع أميركي بقيمة 600 ألف دولار، على أن تسمح اليوم أيضاً بإدخال ستة آلاف إطار للسيارات لأول مرة منذ بدء مسيرات العام في آذار/ مارس 2018، وقوارب صيد جديدة وحافلات كان ممنوع دخولها طوال سنوات.