لم نعد على مرمى حجر من فلسطين، حتى بطاقات الهوية وجوازات السفر التي كانت تجعل اسم فلسطين قريباً من قلوبنا لم تعد كذلك. صرنا نحن أبناء مخيم اليرموك موزعين بين قارب يهددنا بالموت أو نجاة تمحو آخر أثار فلسطين من أجسادنا، وبين بلاد تقايض عودتنا بالتعويض أو العيش بصفر احترام وإنسانية، وبين بلاد نسكنها لا ملامح لها، أو غير مسموح لنا فيها أن يكون لنا ملامح... صرنا مجرد فكرة. حين غادرنا الخيمة لم نكن نبتعد عن فلسطين، كان الاسمنت البارد يتمدد فوق الخيم، يرتفع ثلاث وأربع وخمس طبقات. لم يكن ارتفاع الطبقات في مخيم اليرموك يعني لنا أكثر من سارية أعلى لعلم فلسطين، والنداء «حيّ على العودة». صار المخيم غابة باطون، لكنه ظل مخيماً. لم يغادر اسمه حتى لو غادرته الخيم، فقد كنا لا نريد منه سوى أن يبقى عنواناً للمؤقت، فالدائم فينا نذر كله لفلسطين، إلا أنهم جعلوا حدود فلسطين مساحة جواز سفر للسلطة، وجعلونا مديحاً لظل الفلسطيني العالي. يرفعوننا أذاناً في خطاباتهم، وينسوننا على المنابر حين يغادرون.
لم نبتعد. كنا نعتقد أننا القضية الأولى لهم، لكننا اكتشفنا أننا لم نكن سوى ورقة لعب بيد الإخوة على طاولة القمار، وورقة ضغط بيد الأهل على طاولة المفاوضات. ومتراس يحتمون به لستر عريهم في وجه الريح والرصاص وغضب الشعوب.
لم نبتعد. لكن ثمة من كان يبعدنا عن فلسطين أو يبعدها عنا: دولة في الريح تمتلك حق الجلوس لا الكلام بين الدول. رئيس يدع الخلق للخالق وينشغل بأزرار هاتفه المحمول ليصوّت لمحمد عساف أو يغطي بجواز سلطته من لا يحتاج الى الغطاء. شعب في الداخل ينسى شتاته يوم يصير شتاته تحت الركام. وسفارات في الخارج تنشغل بولائمها وتترك رعاياها أيتاماً على موائد اللئام.
إن حلمنا فعلينا أن نحلم بالعودة، وإن أحببنا فلنحب فلسطين، ومن أراد منا الزواج فليتزوج القضية، وإن أخطأ واحد فينا وأنجب ولداً، فلينجب فدائياً أو شهيداً للوطن السليب.
كانوا يسلبون حقنا في الحياة باسم فلسطين. يمارسون علينا احتلالاً آخر تحت لافتة «كي لا ننسى»، وكأنهم يريدون أن يوقدوا ذاكرة العودة في الفلسطيني بأن يجعلوه واقفاً عند الحد الأدنى من إنسانيته: يأكل ويشرب وينام ليحلم بالعودة.
توهمنا بأنها صورة الفلسطيني الأسطوري، أو هكذا أوهمونا. يومها تواضعنا، فطالبنا بوجودنا الإنساني البسيط حتى نعود، وبكل ما يجعلنا أناساً عاديين، لكنهم رمونا بسؤال الهوية، لنكتشف أننا ما كنا نعلم أننا لسنا سوى أرقام في نشرات الأخبار، فائض بشري بأحسن أحواله؛ احتياط بمرتبة «كبش فداء».
لم نبتعد عن فلسطين... لكننا اكتشفنا كم كنا كذبة الشعوب، ونوبة نوستالجيا لضرورة تأجيج العاطفة لبعض كبير من أهل الداخل.
كنا وحدنا ولم ندرك، اليوم نصيح يا وحدنا، وقد أدركنا، بعد موتنا، أننا كذلك.