بعد أكثر من أسبوع على انعقاد اجتماع الأمناء العامين للفصائل والقوى الفلسطينية على أرض فلسطينية في رام الله وبيروت (مقرّ السفارة في بيروت أرض فلسطينية بالعرف الدولي)، بات بالإمكان تقييم ذلك الاجتماع، سواءً لجهة دافع كلّ طرف للمشاركة، أو المواقف التي أُطلقت، أو النتائج. لا شكّ في أن الذين وصفوا الاجتماع بـ«التاريخي» كانوا مدفوعين بحقيقة أنه انعقد بعد أكثر من تسع سنوات على الاجتماع الأخير للأمناء العامين الذي انعقد في القاهرة في آذار/ مارس 2011، وبعد قرابة 15 عاماً من «اتفاق القاهرة» في عام 2005 والذي نصّ على ضرورة دعوة الأمناء العامين للاجتماع. وفي ما عدا ذلك، ليس ثمة ما يشير إلى «تاريخيته»، على الأقلّ وفق قراءة تحليلية لمساقِه ونتائجه.لا يختلف اثنان في الساحة الفلسطينية على أن الأزمات التي تراكمت في وجه المشروع الوطني الفلسطيني، بشقَّيه المفاوض والمقاوم، باتت تستلزم السعي إلى توحيد الجهود والتوافق على مشروع جامع، ولو بالحدّ الأدنى. فالتحدّيات التي تواجهها القضية داهمة، وعلى رأسها مشروع «صفقة القرن» وما سبقه من اعتراف أميركي بالقدس عاصمةً للكيان الغاصب، ومخطّط الضمّ الصهيوني لما يقرب من ثلث أراضي الضفة المحتلة، واتفاقات التطبيع التي تخترق ما تبقى من وحدة موقف عربي شكليّ. كذلك هناك الحصار الظالم المفروض على غزة، ومحاولات تطويعها أو تحييدها أو نزع فعاليتها المسلحة. لذا، كان من الطبيعي أن تجد السلطة التي راهنت طويلاً على المفاوضات العبثية أنها تخسر ما تبقى في أيديها من أوراق قوة لطالما ركنت إليها، ولا سيما الرهان على الإجماع العربي على ما يسمى «المبادرة العربية للسلام» (بيروت 2002) والتي تنصّ على أنه لا تطبيع قبل قيام دولة فلسطينية على حدود 1967. من الطبيعي في هذه الحالة أن تسعى السلطة إلى تجميع الموقف الفلسطيني، في محاولة للإمساك بورقة الإجماع الفصائلي في مواجهة الضغوط العربية والأميركية التي تمارَس عليها. ومن هنا، لم يكن مستغرَباً أن تتحدّى السلطة الفيتو الأميركي - الصهيوني على عقد اجتماع الأمناء.
في الجهة الأخرى، تجد فصائل المقاومة أن الانقسام الداخلي قد أضرّ كثيراً بالقضية، وعَطّل الكثير من وسائل وأدوات الاشتباك مع المشروع الصهيوني، ولا سيما بسبب التنسيق الأمني في الضفة حيث يلاحَق المقاومون وتفكَّك الخلايا وتعطَّل العمليات على أيدي أجهزة السلطة، إضافة إلى استمرار حصار غزة وخنقها، وصولاً إلى ابتزاز موقفها في محاولة لتعطيل فاعلية سلاح المقاومة في مواجهة الاستيطان الصهيوني. هذا إضافة إلى تصنيف فصائل المقاومة على لوائح الإرهاب في بعض الدول الخليجية، وملاحقة أفرادها، وبأثر رجعي في بعض الأحيان. ولطالما طالبت المقاومة بالوحدة الوطنية في محاولة لتعديل ميزان القوى مع العدو الصهيوني. وجاء التطبيع ليضيف دافعاً جديداً للمقاومة التي لطالما راهنت على استراتيجية ديمومة الاشتباك مع العدو بانتظار تحسّن الموقف العربي والإسلامي، فإذا بها تتلقى طعنة في الظهر. في هذه الظروف والاعتبارات الاستراتيجية، كان من الطبيعي أن تجد السلطة والفصائل الأخرى أن لا بديل من السعي إلى توحيد الموقف، لأن مستقبل القضية كلّه في خطر، مع عدم إغفال أن التقارب بين «فتح» و«حماس» الذي جرى مؤخراً مهّد لعقد الاجتماع.
مع ذلك، يبدو أن لكلّ من الأطراف المشاركة، ولا سيما الرئيسة، والمقصود بها السلطة (مختزلة «فتح») و«حماس» و«الجهاد الإسلامي»، دوافعه ومنطلقاته الخاصة من وراء المشاركة في الاجتماع. فرئيس السلطة كان يسعى بوضوح إلى الإمساك بورقة الإجماع الفلسطيني ليُحسّن موقفه في وجه ما وصفه بـ«الخيانة» و«الطعنة في الظهر» جرّاء اتفاق التطبيع الإماراتي، وكان واضحاً في خطابه أن مأخذه الأكبر على الاتفاق المذكور أنه جاء من دون استشارة السلطة أو التنسيق معها، بدليل اشتراطه على الدول العربية التي تريد مساعدة الفلسطينيين أن يكون ذلك «من خلالنا ومن خلال رأينا ومن خلال مساعينا... إمّا أن تساعدني أو تجلس جانباً... لا أحد يحمّلنا جمائل». ثمّ هناك اجتماع موسكو الذي من المقرّر أن يُعقَد قريباً، والذي يحتاج فيه عباس إلى اتفاق فلسطيني موحّد، أقلّه مع «حماس»، كما يحتاج له في أيّ مفاوضات لاحقاً، مُتمسِّكاً بمبدأ المفاوضات، وداعياً إلى مفاوضات تحت سقف الأمم المتحدة ممثلة بـ«الرباعية الدولية». وقد عبّر بوضوح أنه لا يزال يرى أن الخروج من المأزق الداخلي يكون عبر «الانتخابات» و«الشراكة». بعبارة أخرى: لم تدفع التطوّرات الاستراتيجية الكبيرة السالفة رئيس السلطة إلى نفض يده من مبدأ المفاوضات، ولا من التمسّك بـ«اتفاق أوسلو» ونتائجه، ولا من الكيانية الفلسطينية ممثلة بالسلطة، مع أنه أعاد التهديد بأن المضيّ في مشروع الضم، الذي أسقطه شعبنا وليس أحد غيره حتى الآن، يعني أن السلطة ستترك الاحتلال يتحمّل مسؤوليات المناطق المحتلة.
لغاية كتابة هذه السطور، لم تتمّ تسمية «الشخصيات الوطنية الوازنة»


بالمثل، حدّد رئيس المكتب السياسي لـ«حماس»، إسماعيل هنية، ثلاثة مسارات للخروج من المأزق: إعادة تطوير «منظمة التحرير»، والمقاومة الشاملة وفي مقدّمتها العسكرية، وترتيب العلاقات مع المحيط، مؤكداً أن ذلك «يتطلّب إنهاء العلاقة مع الاحتلال وحقبة أوسلو ويفتح عهداً فلسطينياً جديداً، إلى جانب استراتيجية كفاحية نتّفق عليها عبر لجنة تجلس لوضع كلّ التفاصيل المتعلقة بها». وفي لقاء مع تلفزيون فلسطين «الرسمي» أوضح هنية أن الطريق إلى ذلك يمرّ عبر «الانتخابات»، وتشكيل «حكومة وحدة وطنية». وحدها «الجهاد الإسلامي في فلسطين» كانت تُغرّد خارج السرب، وبدا أمينها العام زياد النخالة متحفّظاً، وهو ما عبّر عنه باستهلاله كلمته بالقول: «ينظر إلينا الشعب الفلسطيني بكثير من الأمل، وأيضاً بكثير من الإحباط»، وكما في قوله قبل أن يطرح رؤية الحركة للخروج من المأزق الحالي: «هل لدينا القدرة الآن والإرادة لنبدأ من جديد رغم ما أصابنا ووقع بنا من خسائر... هذا ما سنكتشفه اليوم في لقائنا»، ما يعني أن مشاركة «الجهاد» كانت انتصاراً للوحدة الوطنية.
لم تكن حركة بحجم «الجهاد» لتغيب عن المشاركة في اجتماع الأمناء العامين، وهي التي لطالما دعت إلى الوحدة الوطنية التي تمثل لها ركيزة استراتيجية أساسية في مواجهة المشروع الصهيوني، ولطالما كانت الحركة همزة وصل بين المتخاصمين في أحلك المحطات والظروف. بدا جلياً أن الحركة تدرك أن ظروف وحدة وطنية حقيقية لم تتبلور، ما دامت السلطة لم تغادر مربع الرهان على المفاوضات، ولا البناء على نتائج «أوسلو». كان النخالة واضحاً في تحديد أزمة المشروع الوطني الفلسطيني بقوله: «كانت القراءة الفلسطينية في تقدير تاريخي خطأ عندما اعتقد الفلسطينيون أن بإلإمكان تغيير مجرى اندفاعة المشروع الصهيوني وعقدوا اتفاق أوسلو مجاراة للعالم وأوهام صنعناها»، لافتاً إلى أن «المشروع الصهيوني يتمدّد في المنطقة ويحقق إنجازات لم تكن في أحلام مؤسّسيه... ونحن كنا جسراً لهذا التمدّد»، مؤكّداً أن الخروج من المأزق يتطلّب إعادة الاعتبار إلى مواجهة المشروع الاستيطاني اليهودي الذي يريد فلسطين كاملة والسيطرة على مقدّساتها وتهويدها بالكامل، كجزء لا يتجزّأ من جوهر المشروع الصهيوني المدعوم أميركياً وغربياً، وأن الرهان على إيجاد دولة فلسطينية إلى جانب المشروع الصهيوني رهان على سراب، ويعبّر عن عدم إدراك لطبيعة المشروع الصهيوني، وسيرهن المشروع الفلسطيني بالتقلّب بين مأزق وآخر.
وفي تأكيد لتمسّك «الجهاد» بمواقفها وثوابتها واستمرارية نهجها، أعاد النخالة طرح المبادرة التي قدّمتها الحركة في 2016، على لسان أمينها العام الراحل، الدكتور رمضان شلح (رحمه الله)، والتي تنصّ على: إلغاء «اتفاق أوسلو» (وكلّ مندرجاته من انتخابات وحكومة وما شابه)، وسحب اعتراف «منظمة التحرير» بالكيان الصهيوني، وإعادة بناء المنظمة بما يُمكّنها من أن تصبح إطاراً وطنياً جامعاً، واعتبار أن المرحلة هي مرحلة تحرّر وطني (لا مرحلة بناء دولة)، وتحقيق الوحدة الوطنية على قاعدة المقاومة، ووحدة الشعب الفلسطيني، ووقوف الأمة عند مسؤولياتها، منتقداً اتفاق التطبيع الإماراتي بشدة. كما تحفّظت «الجهاد» على البيان الختامي الذي صدر عن اجتماع الأمناء بخصوص نقطتين: الأولى تتعلق بإقامة دولة فلسطينية على حدود 1967، وهو ما ترفضه جملة وتفصيلاً، والثانية تتعلّق بإعادة بناء «منظمة التحرير» والتي لم يُفرد لها البيان الختامي بنداً خاصاً واعتبرها تحصيل حاصل.
كان لافتاً أن يخلص البيان الختامي للاجتماع إلى تشكيل لجنتين: الأولى «من شخصيات وطنية وازنة، تحظى بثقتنا جميعاً، تقدّم رؤية استراتيجية لتحقيق إنهاء الانقسام والمصالحة والشراكة في إطار م. ت. ف، الممثل الشرعي والوحيد لشعبنا الفلسطيني، خلال مدّة لا تتجاوز خمسة أسابيع، لتقديم توصياتها للجلسة المرتقبة للمجلس المركزي»، أي إنها لا تقدّم توصياتها إلى الأمناء العامين. ويكفي أنه لغاية كتابة هذه السطور، لم تتمّ تسمية أحد من «الشخصيات الوطنية الوازنة». أما اللجنة الثانية، فبِلا مهلة زمنية محدّدة، وهدفها «قيادة المقاومة الشعبية الشاملة على أن توفر اللجنة التنفيذية لها جميع الاحتياجات اللازمة لاستمرارها»، أي مرّة أخرى، تكون مرجعيتها المنظّمة قبل التوافق على إصلاحها وإعادة بنائها، ولا البحث في انضمام «حماس» و«الجهاد الإسلامي» إليها. نتيجة لما سبق، يمكن استخلاص أن اجتماع الأمناء العامين، في حال لم يكن على مستوى التحدّي الاستراتيجي المنوط به في تحقيق الوحدة والانتفاضة ضدّ الاحتلال، وإذا ما استمرّت المواقف نفسها، فإن ذلك سيشكّل مرة أخرى «إحباطاً» جديداً للشارع، وسيُسجَّل في التاريخ كاجتماع آخر لم تختلف نتائجه العملية عن سابقه، وهو ما نبّه إليه النخالة في مستهلّ كلمته.

* كاتب فلسطيني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا