تحب قصائد نزار أكثر من قصائد درويش.تغريك أغنية عبد الحليم أكثر مما تفعله أغاني العاشقين.
تلاحق أفلام أحمد زكي وسعاد حسني.. ولا تسأل عن وثائقيات الثورة الفسطينية.
تحث الخطى صباح العيد نحو ساحة أبو حشيش في مخيم اليرموك لتلعب بالمراجيح. لا تلتحق بأهل المخيم في مقبرة الشهداء.
بعد كل هذا لا يبقى من الطفل الفلسطيني فيك سوى البشرة السمراء ومخارج الحروف المحكية... كأنك مصاب بانفصام وطني، هكذا سيشخصون حالتك، وإلا كيف لابن المخيم أن يكون على ما أنت عليه؟!

أنا ماهر ابن مخيم اليرموك.. لم اختر يوماً أن أكون شبلاً من أشبال المنظمة، كان ثمة من يلبسني ثوب الشبل قسراً في المخيم، ويعلقه برقبتي متراساً لفصيله في المنظمة دون سواه، حتى اعتقدت أنها بطاقة انتمائي وائتماني.
إلا أنني سرعان ما اكتشفت أي خديعة تقف خلف لقب «الشبل». فهو لم يكن سوى قطبة إضافية في ثوبهم الافتراضي ليتباهوا بأن عباءتهم الوطنية هي الأوسع بين الفصائل! وقتها طلقت الفصائل الفلسطينية مبكراً وتنحيت عن درب النضال كما ترسمه.
باكراً تعلقت بغسان كنفاني، تقمصته حتى نسيت نفسي وحفظت غسان... وورثت عنه، خارج قوانين الوراثة، كل شيء! حتى آلام المعدة وانكسارات الحب. ولكنني على حافة الحب الأول، ضُبطتُ متلبساً بسرقة قصيدة لنزار قباني... فلم تكن غادة السمان بعد نشرت رسائل غسان لها لأسرقها.
لم أكن وحدي هناك في عشق نزار، ففي القطار ذاته كانت قبيلة من العشاق، سرقت قصائده لتتعاطى الحب. لكن هناك، وسط المخيم، من خرج ليطلب مني النزول من القطار ذاته، وطيّب خاطري بديوان «هوامش على دفتر النكسة» لنزار نفسه. لم يشأ أن يفصلني عن نزار كما قال لي، فأهداني دفتر النكسة، لكنه من حيث لا يحتسب، وربما يحتسب، كان يفصلني عن إنسانيتي.
منذ ذلك الوقت وأنا أبحث عن صورة تشبهني، كلنا في ذلك الزمان كنا نريد أن نشبه حنظلة، لكن حنظلة كان يعطينا ظهره، فرحنا نبحث عن تجليات لحنظلة ولنا على الأرض. لا أعرف لماذا كانت صورة حنظلة، صورتنا، تتقاطع مع .. أحمد زكي!
أحمد زكي..؟!
ثمة من يسخر من التشبيه. ما علاقة الفلسطيني بأحمد زكي؟ أحاول أن أشرح له أن أحمد زكي كان ولم يزل صورة مثالية لحلم فقير يصبو للضوء، وكان واحداً من ابتسامات الفقراء القليلة، المعجونة بعرق لقمة العيش المغمسة بالدم. ربما كان جبهة متقدمة لأحلامهم بالثورة والعودة، لكن الساخر من التشبيه لم يفهمني.
كنت سأختصر لهذا «الوطني» المسألة، وأسأله في المقابل، عن علاقتنا بمن يتركنا وسط طين المخيم من قادة الفصائل ويسكن أرقى أحياء دمشق؟ إلا أن الرجل كان بدأ تلقيني درساً في حب فلسطين... ومستنكراً ما أنا عليه، تساءل بغضب «كيف لابن المخيم أن يكون على ما أنت عليه»؟!
«ما يجب عليه أن يكون ابن المخيم الفلسطيني»! كانت تلك إيديولوجيا حمقاء قتلتنا مرتين: هي قتلتنا من قبل بعيداً عن فلسطين، وهي من تقتلنا اليوم في مخيم اليرموك وسط نيران الحدث السوري.
في كل مرة كنا نقدم بحكم تلك الأيديولوجيا قرابين للموت عن الآخرين، لا فلسطين. وها نحن أسرى طوق حصار من الداخل والخارج في مخيم اليرموك نموت جوعاً وقصفاً، دون أن ينتبه أحد إلى أن رغيف خبز يمنعه المحاصرون عنا فلا يدخلونه المخيم، ورغيف خبز يمنعه شركاؤنا في الحصار عنا فلا يتقاسمونه معنا، هما رغيفان لا يصنعا انتصار أحد على أحد ولا يصنعا صمود أحد في وجه أحد. لكنهما ينتصران معاً لوجودنا الإنساني البسيط، هذا الوجود الذي لا يعترف به أحد منذ صنعتنا الفصائل أشبالاً وأعلننا العرب قضيتهم، حتى الساعة التي تاجر بنا الاثنان في سوق الصمود، حيث جعلا من أجسادنا المخردقة بالجوع والرصاص متاريس لهم يتقاتلون من خلفها ويتركونها وحيدة في وجه الموت.
لم أفقد صوابي بعد. أحب نزار وعبد الحليم وماجدة الرومي.. تغريني مشاهدة يسرا وأحلم بسعاد حسني وأحب اليوم هيفا ونانسي وكاظم الساهر. أحب علي الديك وشعبان عبد الرحيم أيضاً... وما زلت رغم ذلك ابن مخيم اليرموك، لي بوصلة واحدة هي فلسطين ولي درب واحد هو درب العودة...
أحب كل هؤلاء ما دام وجودهم في حياتنا يدلق على أجسادنا شهوة الحياة، ويزمّلنا بالحب، ويرفع من منسوب الحلم في ليالينا، في وقت كانت فيه الفصائل تقسمنا.. ثم تقسم ما تقسم منا.. وأخيراً باسم فلسطين تقتلنا في اسواق التجارة قطعة قطعة.