في هذا السياق، حرصت إسرائيل على أن تكون البداية من حيث ما انتهى إليه عدوان «الجرف الصامد» عام 2014، أي قصف الأبراج في غزة، على رغم نجاح قوى المقاومة في اختراق منظومات الاعتراض الصاروخي واستهداف العمق الإسرائيلي بقصف تل أبيب ومحيطها. وقد تحدّد هدف هذا العدوان، بحسب رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو، بالوصول إلى وضع «تَزِن فيه حماس الأمور جيّداً في المرّة المقبلة، إذا ما فكّرت في إطلاق الصواريخ علينا». يؤشّر تحديد ذلك الهدف الفضفاض إلى مجموعة حقائق ومفاهيم تتّصل بالأولويات الإسرائيلية، وبإدراك تل أبيب خطورة رسائل هذه الجولة وما يميّزها عن كلّ ما سبقها وما يمكن أن يترتّب عليها من تداعيات تتّصل بالداخل الإسرائيلي وبسياق الصراع المتواصل مع الشعب الفلسطيني، وأيضاً بما تنطوي عليه من رسائل تتّصل ببيئتها الإقليمية التي يتصاعد خطرها على أمنها القومي.
تنبع المخاوف الإسرائيلية من أن مبادرة قوى المقاومة، بما تُمثّله من رصيد استراتيجي، تؤسّس لإعادة لحمة الشعب الفلسطيني على أرض وطنه. فالفلسطينيون، وإن كانوا يتفوّقون عددياً بنسبة قليلة (ما يزيد على 7 ملايين)، على الصهاينة في كلّ أرض فلسطين (أقلّ من 7 ملايين)، إلّا أنهم موزّعون على عدّة مناطق لكلّ منها أولوياتها وظروفها السياسية والأمنية: جزء محاصَر ويخوض المقاومة بكلّ ما للكلمة من معنى في قطاع غزة؛ وآخر محكوم من السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية والتي تؤدّي دوراً وظيفياً لا تخفيه في مواجهة أيّ محاولة انتفاضة شاملة أو حركة مقاومة مسلّحة تسعى إلى تنفيذ عمليات من فترة إلى أخرى ضدّ المستوطنين والجنود؛ وجزء ثالث في القدس الشرقية ومناطق الـ48. ترى إسرائيل أن تكتُّل الفلسطينيين الموزَّعين على هذه المناطق حوْل استراتيجية المقاومة بمختلف أشكالها وأساليبها، يمثّل تهديداً كبيراً للأمن القومي الإسرائيلي.
يمثّل دخول المقاومة في غزة على خطّ قضية القدس والمسجد الأقصى مؤشّراً خطيراً للعدو
في الإطار نفسه، يمثّل دخول المقاومة في غزة على خطّ قضية القدس والمسجد الأقصى مؤشّراً خطيراً لدى مؤسّسات القرار السياسي والأمني في تل أبيب، لكونه يؤسِّس لمعادلة جديدة ترتكز على إعادة إنتاج الالتفاف الفلسطيني حول القضية المذكورة. وهي معادلة، إن تمّ إرساؤها، تُعدّ منعطفاً استراتيجياً في مسيرة حركة المقاومة على أرض فلسطين، وستكون لها تداعياتها الخطيرة في ما يتعلّق بمستقبل هذه الحركة، وبأولويات الكيان الإسرائيلي. لذا، لا يخفي العدو، على ألسنة قادته وخبرائه، مخاوفه من أن تنتهي هذه الجولة فيما لا تزال المقاومة تملك إرادة المبادرة والردّ في اليوم الذي يلي وقف إطلاق النار، لأن معنى ذلك تكريس المقاومة كقوة مؤثّرة بشكل مباشر في الداخل الإسرائيلي، وبتعبير أدقّ، كقوة تفرض خطوطاً حمراً في عمق الكيان، وتحديداً في ما يتّصل بقضية القدس. وهو متغيّر لا يستطيع الإسرائيلي أن يضبط تداعياته على الشارع الفلسطيني، وعلى المعادلات التي يمكن أن تتدحرج في اتجاهات أكثر خطورة، وبما سيدفع العدو إلى تغيير سلّم أولوياته.
في ضوء ما تقدّم، يعمل العدو على تحييد أقصى ما يستطيع من أهداف عسكرية، وأيضاً جبْي أثمان مؤلمة من القطاع، وتحديداً عبر استهداف البنى التحتية والعمرانية فيه لأهداف «ردعية». على أنه يلاحَظ في الأهداف التي يسعى الكيان إلى تحقيقها، أنه تخلّى عن شعارات مرتفعة السقوف، من قبيل القضاء على قوى المقاومة، لإدراكه تعذُّر تحقيقها، والكلفة الكبيرة التي سيتكبّدها من جرّائها. كذلك، يؤكد الميدان أن إسرائيل عاجزة عن سلب المقاومة إرادة القتال. وبالاستناد إلى إدراك الاحتلال محدودية النتائج التي يمكن أن يُحقّقها على المستوى العسكري، فهو يتحدّث في خطابه الرسمي والإعلامي عن تقليص القدرات العسكرية ليس إلّا، هذا من دون مناقشة المبالغات التي قد يكون العدو مضطراً إليها كي يقدّم المعركة على أنها إنجاز عسكري استثنائي، وخاصة أن معيار نجاحها وفشلها مرتبط بحجم تدمير القدرات العسكرية للمقاومة، التي أثبتت تجارب السنوات الماضية أنها تخرج من كلّ جولة بإمكانات أقوى كمّاً ونوعاً. يُضاف إلى ما تقدّم أن اختيار هدف محاولة التأثير في حسابات قيادة المقاومة كي لا تكرّر ضرباتها الابتدائية، كما عبَّر نتنياهو، يعود إلى كونه الحدّ الأدنى المتاح، وفي النهاية لا بدّ من تحديد هدف سياسي. ولكن حتى الهدف الأخير المذكور أثبتت تجربة سنوات من القتال والمقاومة أنه مجرّد أمنية يحاول العدو الاقتراب منها، مع أن المقاومة لم تكن تملك آنذاك ما تملكه الآن من قدرات وخبرات وتقنيات.
تتداخل الاعتبارات الموضوعية التي تحكم خلفية مؤسّسات القرار السياسي والأمني، مع مصالح نتنياهو الحزبية والشخصية. فهو نجح من خلال تأجيج قضية الأقصى وحيّ الشيخ جراح، ومن ثمّ تأجيج العدوان على القطاع، في قطع الطريق على تأليف حكومة بديلة تؤدي إلى إطاحته، وخاصة أن أيّ حكومة يراد تأليفها لن تتحقّق إلّا بالاستناد إلى أصوات كتل عربية، ومعها كتل يمينية متطرّفة من المتمرّدين على نتنياهو. فبعد هذه الجولة، سيكون من الصعب جدّاً إنتاج ائتلاف حكومي يستند إلى هذين الطرفين معاً. وهكذا، عادت وجهة التطوّرات الداخلية تتدحرج نحو محاولة إعادة إنتاج حكومة يمينية أو انتخابات خامسة.
تبقى حقيقة ينبغي أن تُظلّل أيّ قراءة أو تحليل لواقع الصراع مع العدو ومستقبله، وهي أن «تواضُع» إسرائيل في تحديد أهدافها في مواجهة قطاع غزة، على رغم صعوبة ظروف القطاع الجغرافية والاقتصادية والعسكرية بالقياس إلى بقية أطراف محور المقاومة، ينطوي على إقرار رسمي مباشر بضيق خياراتها وبمحدودية قدراتها، وبأن رفع سقوف الأهداف لن يكشف فقط فشلها بعد انتهاء الجولة، بل سيؤدّي إلى خسائر كبيرة تتناسب مع حجم ارتفاع السقوف والإصرار على تحقيقها. أمّا السؤال المصيري الذي يَمثُل أمام قادة العدو ومؤسّساته فهو: ماذا لو لم يُحقّق ما يطمح إليه من ردع، وهذا ما حدث في تجارب طويلة من الجولات القتالية، وهو المرجّح حدوثه اليوم؟ فمأزق ردع العدو ينبع من أنه لا هو قادر على التسليم بالمعادلة التي أرستها المقاومة، ولا في استطاعته ردع الأخيرة عن استهداف تل أبيب وعمقه الاستراتيجي، ولا هو يجرؤ على العملية البرّية الواسعة... ومَن ليس قادراً على الردع في الوقت الذي تتهاوى فيه الأبراج العالية، عليه أن لا يتوقّع تحقُّقه في المرحلة التي تلي. وعلى ذلك، ماذا لو تمّ تكريس المعادلة التي أرستها المقاومة في غزة، وهو المتوقّع؟ وماذا ستكون خيارات إسرائيل البديلة؟ يمكن، هنا، تخيُّل القفزة التي ستُحقّقها المقاومة لشعب يرزح تحت الاحتلال، في ظلّ تطوّرات إقليمية واعدة، من المؤكد أنها ستفتح آفاقاً رحبة أمام فلسطين وشعبها ومقاومتها.
اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا