غزة | فجر اليوم الخامس من العدوان، لم يجد الآلاف من سكان المناطق الشرقية في مدينتَي بيت حانون وأم النصر شمال قطاع غزة، مكاناً للجوء إليه سوى مدارس "وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين"، "الأونروا". في ذلك اليوم، أمطرت قذائف المدفعية الإسرائيلية منازلَ السكّان المحاذية للشريط الحدودي بعمقٍ تجاوز الثلاثة كيلومترات. وبعد رحلةٍ طويلة قطعتها العائلات مشياً على الأقدام، وتحت نيران المدافع، فوجئ النازحون بأبواب مدارس "الأونروا" مغلقة. "وقفنا وأعدادنا تجاوزت الألف أمام مدرسة في منطقة بيت لاهيا، وكان الباب مقفلاً. ظننّا أن الحدث كان مفاجئاً وأن وكالة الغوث لم تجهّز نفسها للأمر، لكنّنا فوجئنا بحارس المدرسة يخبرنا بأنه لا إذن من الإدارة العامة للأونروا بتحويل المدارس إلى مراكز إيواء"، يقول شريف المصري، أحد اللاجئين من حيّ المصريين شرق بيت حانون، في حديثه إلى "الأخبار". ويضيف الرجل الذي تضرَّر منزله بشكل جزئي: "حاولنا التفاهم بلغة العقل، لكن لم تكن ثمة فائدة من الحديث، اضطررنا إلى كسر بوابة المدرسة، والدخول. افترشنا الأرض من دون أغطية؛ لأن البديل المتوفِّر هو الأرصفة والطرق".[اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
في صبيحة اليوم السادس من الحرب، استفاقت "الأونروا" وقد ضجَّت مدارسها بأكثر من 50 ألف نازح، بينما لم تكن قد أعدَّت، حتى تلك اللحظة، خطّة لاحتواء الموقف، في حين أن بعض الفصائل والمؤسسات الأهلية والدولية، قدّمت معونة عاجلة للأسر النازحة، قبل أن تبادر "الأونروا" إلى تنظيم الحالة العشوائية التي كانت قد حفلت بها مراكز الإيواء. ولدى استيضاح الخطة التي تعدّها الوكالة لإغاثة النازحين، أصدرت تصريحاً إعلامياً، في اليوم التاسع من العدوان، قالت فيه إن التصعيد بلغ نهايته، وإنه ليست هناك حاجة إلى خطة طويلة الأمد.
لكن ما سبق، كان يمكن أن يمرّ، لو أن مدير عمليات "الأونروا" في القطاع، ماتياس شمالي، لم يبادر إلى اتّخاذ جملة من الخطوات الاستفزازية التي قفز فيها فوق دوره الإغاثي، حين أشاد بالضربات الدقيقة التي نفّذتها آلة الحرب الإسرائيلية ضدّ المواقع العسكرية للمقاومة، زاعماً، في مقابلة أجراها مع "القناة 12" الإسرائيلية، أن الأهداف التي طاولها القصف لم تكن سوى مراكز أمنية تابعة لفصائل المقاومة المسلّحة. وقال: "أنا لستُ خبيراً عسكرياً؛ لكن من وجهة نظري، هناك دقّة عالية في قصف الجيش الإسرائيلي خلال الأيام الـ 11 الماضية"، مضيفاً أن إسرائيل "لم تقصف أهدافاً مدنية، إلّا بعض الاستثناءات".
وفيما كانت العائلات تتّجه إلى مواساة بعضها في مَن قضى من أفرادها جرّاء العدوان، خرجت "الأونروا" بقرارات أكثر استفزازاً، حين أعلنت أنها ستفتح أبواب المدارس لممارسة التعليم على نحو طبيعي، مطالبةً العائلات التي تقيم في مراكز الإيواء بإخلائها، على رغم إعلان وزارة التربية والتعليم في غزة اضطرارها لإنهاء العام الدراسي، نتيجةَ تضرُّر عشرات المدراس واستشهاد عدد من الطلاب، فضلاً عن تعقُّد الحالة الوبائية المتعلِّقة بتفشّي فيروس "كورونا".

فصول المواجهة
ليس ما سبق سوى بعض من فصول الحرب التي تشنّها "الأونروا" على اللاجئين في غزة، إذ ترافق تسلّم شمالي لمهامه في تشرين الأول/ أكتوبر 2017 مع مروحة هائلة من الخطوات، بدءاً من إنهاء عقود قرابة 1000 موظف إداري وفنّي، وليس انتهاءً بتقليص هامش العقود المتجدّدة التي كانت بمثابة طوق النجاة لعشرات المهندسين وخرّيجي الجامعات الذين يضيق سوق العمل المزدحم بهم.
مسلسل التقليص بدأ بالموظفين وبطبيعة العقود التي تقدّمها "وكالة الغوث"؛ فغيّر شمالي طبيعتها من وظائف دائمة بحقوق وظيفية مكتملة، إلى عقود موقّتة، أو طويلة الأمد، لكنها تفتقر إلى الحقوق الوظيفية التقليدية التي كان يتمتع بها موظفو "الأونروا". يقول إبراهيم محمد (اسم مستعار)، وهو أحد موظّفي الوكالة، إن ثمة حالة إرهاب نفسي يعيشها الموظفون، ضاعف شمالي من حدّتها. ويكمل، في حديثه إلى "الأخبار": "سَنَّ شمالي جملةً من القوانين التي صارت تَعتبر الانتماء إلى أيٍّ من الأحزاب الوطنية جريمة، تصل عقوبتها إلى الطرد، بالإضافة إلى الرقابة الصارمة على نشاط العاملين في الأونروا في مواقع التواصل الاجتماعي. فالتغريد والتفاعل مع القضايا الوطنية العامّة يتسبّبان في مشكلات وظيفية تقلّص مستوى الأمان الوظيفي وقد تصل إلى الطرد". وأُجبر الموظفون على التوقيع على جملة من التعهدات، تهدف جميعها إلى الحدّ من نشاطهم الوطني، وتحارب انتماءهم السياسي للأحزاب الوطنية.
أسوأ السياسات التي أقرّها شمالي، كانت تلك التي تتعلّق بالمساعدات الإغاثية التي تصرفها "الأونروا" للأسر الأكثر فقراً


غير أن أسوأ السياسات التي أقرّها شمالي، كانت تلك التي تتعلّق بالمساعدات الإغاثية التي تصرفها "الأونروا" مرّة كل ثلاثة أشهر للأسر الأكثر فقراً، إذ كان الرجل يبحث عن مبرّرات لتأجيل صرف المساعدات في إحدى الدورات، وآخرها ما تمّ قبل أشهر عندما تذرّعت الوكالة بالأزمة الوبائية وأوقفت توزيع المساعدات، على رغم أنها تمثِّل المصدر الوحيد للغذاء لآلاف الأُسر. وفضلاً عن ذلك، تُجري "الأونروا" مسحاً شهرياً دقيقاً على الأُسر المستفيدة، للبحث عن حجّة لشطب بعضها. وبحسب أحد المستفيدين، الذي فضّل عدم الكشف عن هويته، فالأمر لم يتوقّف عند ذلك الحدّ، إنّما تخطّاه إلى سحب بعض المواد التموينية من "الكابونة". ففي الدورة الثالثة من العام الجاري، تفاجأ المنتفعون من سحب البقوليات، كالعدس والحمّص والأرز، وتذرّعت "الأونروا، في حينه، بأن ما حدث كان طارئاً بسبب انتهاء عقد موظفي المؤن الذين يقومون بتعبئة تلك المواد، وعددهم 18 موظفاً، كانت "الأونروا" قد أنهت عقودهم لأنهم يعملون تحت بند "العمل مقابل الأجر" وتسبّبت جائحة "كورونا" بتعطّل عملهم.
ومنذ سنتَين، يوقف شمالي الزيارات المسحيّة لإضافة أُسر جديدة إلى قائمة المستفيدين، ويعمل بشكل دؤوب على تقليص عدد المستفيدين الحاليين، ما تسبّب في تراكم خمسة آلاف شكوى من اللاجئين في أدراج "الأونروا"، لم تكلِّف الوكالة نفسها عناء الردّ على أيٍّ منها.

ماتياس شمالي... ارحل
العاصفة التي أحدثها سلوك شمالي، ولا سيما بعد تصريحه الأخير، حاول المفوّض العام للوكالة، فيليب لازاريني، احتواءها عبر تقديم تصريح اعتذر فيه عمَّا تفوّه به شمالي، معرباً عن تضامنه مع أسر الضحايا. وشدّد على أنه لا يوجد مبرّر لقتل المدنيين، مشيراً، في الوقت نفسه، إلى أن مدارس "الأونروا" فقدت 19 طالباً من أبنائها خلال العدوان، من بين أكثر من 60 طفلاً آخرين قضوا جراء القصف الإسرائيلي. غير أن شمالي الذي تتّسم شخصيته بالعناد والمكابرة، كما حَدَّثنا عنه بعض العاملين المقربين منه، زعم، في تغريدة نشرها عبر حسابه في "تويتر"، بأن أقواله حُرِّفت وأُخرجت من سياقها.
وقبل أن يحزم الرجل شنطة رحيله عن القطاع، صباح يوم أمس، كانت مسيرات حاشدة قد انطلقت، بدعوةٍ من "اتحاد العاملين العرب" في "الأونروا"، إذ احتشد المئات أمام مقرّ الوكالة وسط غزة، وطالبوا برحيل شمالي وطاقم إدارته نهائياً عن القطاع. في هذا السياق، أكد القيادي في "الجبهة الشعبية"، جميل مزهر، أن القوى الوطنية والإسلامية، وقبل أن يغادر شمالي، كانت قد اتّخذت قراراً جامعاً بضرورة طرده من غزة. وقال، في حديثه إلى "الأخبار"، إن "شمالي تجاوز المهمّة المكلّف بها، وبدأ بتقمُّص دور المدافع عن العدو الصهيوني ومجازره"، مضيفاً: "كان عليه أن يدين قيام جيش الاحتلال بقتل 66 طفلاً و36 امرأة و17 كهلاً، وتقديم الإغاثة للنازحين الذين ناموا في مدارسه على البلاط". وتابع مزهر: "الدور المنوط بالأونروا هو أن تطالب بفتح لجنة تحقيق حول المجازر التي ارتكبت في حقّ الأسر". وختم ممثل الجبهة، قائلاً: "أمام اصطفاف شمالي ونائبه ديفيد دي بولد المطلَق مع العدو الصهيوني، فإن قوى شعبنا أجمعت من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار على أن رحيله عن القطاع مطلب وطني وشعبي، ولا بدّ أن لا يتبعه عودة له". وفيما لم توضح "الأونروا" الظروف التي أحاطت بخروج شمالي من غزة، قال لازاريني، في رسالة وجّهها إلى الموظفين، أمس، إنه استدعى مدير العمليات ونائبه إلى القدس "للتشاور معهما واستخلاص المعلومات حول الأحداث الأخيرة"، مضيفاً: "سيذهب ماتياس الآن إلى دورة البحث والتطوير التالية التي يستحقّها، وسيعمل ديفيد عن بُعد من القدس في الفترة المقبلة".

"تغريبة" ماتياس شمالي الثالثة
بطرده من غزة، يسجِّل ماتياس شمالي رقماً قياسياً في سجل مديري "الأونروا" الذين يحصلون على أعلى مستوى من الغضب الشعبي تجاه سلوكهم. فقد سبق أن طُرد "الألماني الجنسية" ذو أصول عربية، من لبنان، بعدما أجرى هناك "بروفة" التقليصات الأولى التي طبّقها في غزة. وافتتح شمالي أعماله في مخيمات لبنان عام 2015، بإقرار تقليصات حادّة في الخدمات المقدَّمة للاجئين، ولا سيما في قطاعات الصحة والتعليم والمعونات. الأزمات التي أحدثها شمالي أسهمت في إحداث ردود فعل غاضبة في مخيمات اللاجئين، ما استدعى تدخُّل السلطات اللبنانية التي أفضت جهودها إلى التوافق على تشكيل خلية أزمة تتولّى المشاركة في إنفاذ القرارات التي تتّخذها "الأونروا"، الأمر الذي ضرب به شمالي عرض الحائط، واستمرّ في الإعلان عن خطواته الأحادية، كأن لجنةً لم تُشكَّل. واختتم "رجل التقليصات" قراراته، مطلع عام 2016، بإلغاء 1800 وظيفة وتحويل المساعدات العينية مِن مِثل الطحين والمواد التموينية، إلى مساعدات تُصرَف عبر بطاقة إلكترونية من دون أن يراعي بخطوته تلك أولويات السكّان الاستهلاكية.
وقبل أن تنتهي مدّة عمله في لبنان، التي أُحيطت بجملة من الانطباعات السيئة ومطالبات شعبية باستبداله، قرَّرت إدارة الوكالة تعيين شمالي ــــ في ما يشبه الترقية التي تقود إلى خروج كريم له من لبنان ــــ، مديراً إقليمياً لخدماتها في سوريا، لكن دمشق التي لم يمكث فيها لأكثر من شهرين، أوصدت أبوابها في وجهه، معلنةً أنها ترفض أن يقيم أو يعمل على أراضيها. وبخروج شمالي من غزة، بهذه الطريقة المهينة، يكون الرجل قد سجَّل في تاريخه المهني، التغريبة الثالثة، التي ستحمل شهادة خروجه من المنطقة إلى الأبد.