لعلّ من أهمّ تداعيات انتفاضة فلسطين معركة «سيف القدس»، أنها رمت كرة لهب في حُضن قيادة حركة «فتح» وكوادرها ومستقبلها. تخلّفت الحركة، بسبب قيادة محمود عباس لها، عن مواكبة الانتفاضة والحرب كما يليق بها، وما يتوجّب عليها من دور، علماً بأن كثيرين من كوادر «فتح» وقواعدها قاموا وأسهموا، بمبادرات ذاتية منهم، في انتفاضات الضفة الغربية. استمرّت الضفة، على الرغم من التململ والتفلّت، شبه هادئة، إلى أن اندلعت انتفاضات شبيبة مناطق الـ 48 في اللد والرملة ويافا وعكا وحيفا والجليل عموماً، إلى جانب أسبقية في المشاركة المقدّرة بعشرات الألوف من أبناء الـ 48 في الاعتصام في المسجد الأقصى، والدفاع عنه. انطلاقة انتفاضات شجاعة ومقدامة في مناطق الـ 48، دفع الحراكات الشبابية في الضفة إلى كسر الطوق الأمني، وقد شاركت فيها كوادر «فتح» وقواعدها بنشاط، لتكتمل، وتتكامل، حلقات وحدة الشعب الفلسطيني في داخل فلسطين كلّها، كما في الخارج.مشكلة محمود عباس أنه يؤمن إيماناً لا يتزعزع بمناهضة المقاومة والانتفاضة، إلى حدّ العداوة، كما لو كانتا من الكفر البواح. ووصل به الحدّ إلى اعتبار «التنسيق الأمني» مع الاحتلال بمرتبة المقدّس، وهي مرتبة لم تصلها عنده لا فلسطين ولا القدس، ولا المسجد الأقصى. وهذا كلّه معلَن على لسانه بالصوت والصورة، ومؤكد بالممارسة سنوات طويلة. قد يعتبر البعض هذا من حقه الشخصي، لكن، ومع التجاوز الشديد لأن يكون حقاً شخصياً، فليس من حقه أن يفرضه على «فتح»، أو على الشعب الفلسطيني، كما فعل طوال عهده حتى المواجهات الأخيرة. أمّا الإشكال الأشدّ خطراً وخطورة، فهو استمراره من الآن فصاعداً على رأس حركة «فتح» وقيادة «منظّمة التحرير الفلسطينية»، واستتباع السلطة والأجهزة لإطاعة أوامره.
ثمّة إجماع على أن مرحلة جديدة بدأت مع «انتفاضة فلسطين» وحرب «سيف القدس» ونتائجهما الراهنة. وهذا الوضع يفرض على القوى التي قادت المعركة أن تشكّل جبهة متّحدة تعكس وحدة الشعب الفلسطيني، وتُواصل الطريق نفسه الذي شقّته الانتفاضة والحرب. وهنا، أصبح لزاماً على محمود عباس إمّا المواكبة وإمّا الاستقالة إذا أصرّ على سياساته التي ثَبت فشلها، بلا جدال، وأصبحت الآن المعوّق الأول لمواصلة إنجازات الانتفاضة والحرب (إنجازات الشعب وشهدائه ومناضليه وجرحاه وأسراه). بل أصبح عباس، إذا ما أصرّ على سياساته، أخطر ما يكون على «فتح» نفسها، بعدما تجاوزته الأحداث، وجعلته يقف على قارعة الطريق، معطَّلاً، ومتفرّجاً. ولم يَعُد له من دور سوى ما تريده له أميركا وأوروبا وبعض الدول العربية. وهؤلاء هم الذين نبذوه بالأمس، وعزلوه وجعلوا سياسته تتمرّغ في الوحول، وهم الذين يسعون اليوم إلى إحياء دور له، ثمّ لينبذوه لاحقاً. وقد آن له، من أجل كرامته الشخصية، أن يقول لهم: شكراً، لقد استقلْت، أو غيّرْت سياساتي (التي مرّغتموها في الوحول).
إذا أرادت «فتح» أن تحافظ على دور لها، بعدما فقدت دورها القيادي، عملياً، منذ أن وقّعت على «اتفاقات أوسلو» الكارثية والفاشلة، ووصولها إلى حدّ «التنسيق الأمني» مع الاحتلال في عهد محمود عباس، وتكرّس فقدان ذلك الدور، بصورة حاسمة، مع انتفاضة فلسطين وحرب «سيف القدس» الرائعتَين والتاريخيتَين، واللتين كان من جملة تداعياتهما رمي كرة اللهب في حضن حركة «فتح» وكوادرها ومستقبلها، فلا طريق إلا استقالة عباس برضاه ومبادرته، أو إقالته عن طريق الحركة نفسها. وإلّا فاتها قطار الشعب، لتنتهي نهاية مأسوية ذات درك سحيق. وكرة اللهب هذه ستتحوّل إلى مرمى العدو إذا ما استعادت «فتح» بعضاً من «فتحاويّتها» القديمة، من خلال اللحاق بالركب. فقد تلحق بها «كتائب شهداء الأقصى» كما فعلت في تجربة الانتفاضة الثانية، التي وقفت «فتح»، عملياً، معها. وهنا، يُسجّل دور بارز لياسر عرفات ومروان البرغوثي و»كتائب شهداء الأقصى».
على أن المشكلة الحقيقية بالنسبة إلى «فتح» لا تُلخّص بقيادة محمود عباس، وموقفه من المقاومة والانتفاضة، لأنها في الأساس مشكلة سياسية، وقد تلخّصت بالسير ضمن إطار التسوية والرهان على أميركا، وجعل إقامة دولة فلسطينية ضمن حدود الرابع من حزيران 1967، الهدف الرقم واحد حتى قبل تحرير الأرض والتخلّص من الاحتلال والاستيطان. وقد راحت تساوم على الدولة بالموافقة على «حلّ الدولتين» بما يتضمّنه من تنازل عن 78% من أرض فلسطين والاعتراف بالدولة الإسرائيلية، والبحث عن حلّ «عادل» لقضية اللاجئين، بما يتضمّنه من تنازل عن حق العودة إلى الديار التي هُجّروا منها.
صحيح أن محمود عباس كان العرّاب الرقم 1 منذ البداية لهذا الخطّ، لكنه لم يأخذ موقفاً واحداً من دون غطاء من ياسر عرفات وقيادة «فتح»، وحتى لو لم يعلَن ذلك في حينه. هذا يعني أن عباس تبنّى سياسة تبنّتها قيادة «فتح». ومن ثمّ فإن استقالته أو إقالته تتطلّبان تخلّي «فتح» عن تلك السياسة، والعودة إلى المنطلقات التي صنعت الطلقة الأولى، وكانت وراء قرار «معركة الكرامة»، وهي التي نقلت «فتح» من نخبة صغيرة إلى قيادة الشعب الفلسطيني، وإلى مكانة لا تُضاهى في نظر الرأي العام العربي والإسلامي. فليس المطلوب من «فتح» أن تنتهي من قيادة عباس لها فقط، وإنما المطلوب أن تنتهي من سياسة الدولة الفلسطينية والتسوية والتخلّي عن المنطلقات، وعن استراتيجية الكفاح المسلح. عندئذ، قد تتاح لها فرصة، بعد خرابها، لتتصدّر موقع القيادة الثورية من جديد (طبعاً يكون ذلك من أعاجيب التاريخ). أمّا الاستمرار في سياسات التسوية، و»حلّ الدولتين»، فسيكون استمراراً لسياسة الفشل والانقسام والتدهور إلى النهاية المأسوية الفاجعة. لكنْ ثمّة مشروع آخر، وهو التخلّي عن سياسات التسوية والدولة الفلسطينية على أراضي الرابع من حزيران 1967، وتبنّي برنامج وطني من هدفين: دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات من القدس والضفة بلا قيد أو شرط، وتشكيل جبهة متّحدة تتبنّى استراتيجية الانتفاضة والمقاومة (الاستراتيجية التي مورست في المواجهات الرمضانية الأخيرة، وإلى حين وقف إطلاق النار). أمّا بعد تحرير الأرض كهدف عاجل، فلكل حادث حديث.

ملحق
يُعدّ محمود عباس من القادة التاريخيين لحركة «فتح». ولم يكن ليختلف مع ياسر عرفات أو خليل الوزير أو صلاح خلف (أبو إياد) في الهدف السياسي، وصولاً إلى الانتفاضة الثانية، مروراً بـ»اتفاق أوسلو». فاختلافه الأول كان مع عرفات بعدما انكشفت كلّ أوراق القيادة الصهيونية من «اتفاق أوسلو» حتى «مفاوضات كمب ديفيد». عرفات اقتنع بضرورة التغيير والعودة إلى المقاومة والانتفاضة فعارضه محمود عباس، مُصرّاً على عدم تغيير نهج «اتفاق أوسلو»، بنبذ المقاومة والانتفاضة. وبالطبع، لو كان الشهيدان خليل الوزير وصلاح خلف حاضرَين لفعلا ما فعل الشهيد عرفات.
الخلاف الثاني ظهر في اتفاق «التنسيق الأمني» الذي رعاه الجنرال الأميركي كيث دايتون، في أوّل عهد محمود عباس، وهو مستوى من العلاقة ما كان لقائد «فتحاوي» من الرعيل الأول أن يصله. والخلاف الثالث جاء في قيادته لـ»فتح» و»منظّمة التحرير»، حيث تعامل مع القادة الآخرين والكوادر والأعضاء كموظّفين في شركة، وليس كمناضلين أو كمناضلين سابقين، ولا حتى كأبناء عشيرة واحدة. فكان مجرّد الإخلال أو التمرّد يعني الإقالة من الوظيفة، والإحالة على التقاعد. وهذا كان خروجاً أيضاً على تقاليد «فتح» الأصلية.
أخطر اختلاف في سمات محمود عباس وقيادته لـ»فتح» عن القادة «العشرة البررة» الذين قادوا الحركة بعد 1965، هو عدم الاستعداد للاتّعاظ والتغيير أمام الفشل في السياسة وإدارة الصراع. وهو الذي جعله يختلف مع عرفات في الانتفاضة الثانية أشدّ الخلاف، ولا يبدّل تمسّكه، طوال عهده المتواصل، بنهج التسوية والرهان على أميركا والمفاوضات، بل التمسّك أيضاً برفض العودة إلى المقاومة والانتفاضة تحت أيّ ظرف من الظروف. ولهذا، هو الآن غير قادر على مواكبة المرحلة الجديدة التي لم تعد تحتمله أو تحتمل عناده، إن أصرّ على نهجه السياسي ومواقفه ولم يبدّل تبديلاً.