عرابة، بير الباشا، كفر دان، مخيّم جنين، يعبد؛ قرى كبُر فيها ستة أسرى انتزعوا حرّيتهم، فجر أمس، من جوف «الخزنة» (الوصف الذي يطلِقه العدوّ الإسرائيلي على سجن «جلبوع»)، أكثر السجون حراسةً في فلسطين المحتلة، بعد هروبهم من نفق امتدّ لعشرات الأمتار، وتطلّب حفره أشهراً. ستة أدمغة، هم: محمود عبد الله عارضة، محمد قاسم عارضة، يعقوب محمود، أيهم نايف كممجي، زكريا زبيدي ومناضل يعقوب انفيعات.ثلاثة منهم «سجاف» يحملون وسماً أحمر على بطاقتهم، ويُعتبرون أكثر الأسرى خطورةً، ويحتوي سجلّهم على محاولات هرب سابقة، ويخضعون لمراقبة شديدة على مدى 24 ساعة. وعلى رغم كل هذا، تمكّن الأسرى الستة من الهرب، معلنين بذلك فشل المنظومة الأمنية للاحتلال، التي تُقدِّر بأن تكون وجهتهم جنين، لأن من بين الفارّين قائد كتائب «شهداء الأقصى» في جنين، زكريا زبيدي، الذي سيجد حاضنةً شعبية لإيوائه. فما يَجنيه الاحتلال في مناطق متفرّقة في الضفة المحتلّة والداخل الفلسطيني، مُحرّم عليه في جنين. الحجارة التي ألِفها عند اقتحام المناطق والمنازل الفلسطينية، إمّا للاعتقال أو الترهيب، تتحوّل في جنين إلى زخات من الرصاص. لكن كيف تمكّنت جنين من خلق معادلات لم تُنسَب إلى غيرها من المناطق؟ ولِمَ هذا القلق من تهديد أمن إسرائيل؟

«عاصمة اشتباك»
تتجسّد خصوصية جنين بتفرُّدها في إفراز «هوية موحّدة» تحتضن الفصائل كتفاً إلى كتف في التصدّي للاحتلال، حيث المعقل الأكبر لحركة «الجهاد» في الضفة، وبجوارها «حماس» و«فتح». فميدانياً، كان لانصهار الفصائل أثرٌ في توحيد الفعل المقاوم في المدينة، حيث يتم توزيع مهامّ التصدّي في ما بينها تحت مسميات مختلفة: «كتائب شهداء الأقصى»، «سرايا القدس»، «مجموعات الشهيد جميل العموري». كما لا يمكن تخطّي الميراث الثوري الذي تحمله جنين من القائد عز الدين القسام وخليفته فرحان السعدي، إلى قائد معركة المخيم عام 2002، الشهيد محمود طوالبة.
الجيل الجديد، الذي يرابط على مداخل البلدة ويترصّد رائحة القوات الإسرائيلية المتسلّلة ليلاً، ينتمي إلى عهد ما بعد أوسلو، وعانى مرارة الاجتياحات المتكرّرة لجنين، وشهد انكسار هيبة «الجيش الذي لا يُقهر»، وحمل زخم المعركة الأخيرة. عقائدياً، يحمل هذا الجيل فكرة «إمّا أن تكون مع المقاومة أو تقف في صفّ الخيانة». ومَن يحمل بندقية في جنين، عليه أن يوجّهها نحو الاحتلال. تلك الثقافة المتراكمة لمسار الشهداء تلتهب مع سقوط كل شهيد وعند كل مواجهة مع الاحتلال. وبطبيعة الحال إن الموقع الجغرافي لمدينة جنين، وبُعد المستوطنات من حدودها مقارنة بمناطق أخرى في الضفة، ثبّت جبهة المواجهات مع قوات الاحتلال، ولم يشتّتها في جبهات متعدّدة مع المستوطنين في التصدّي لاعتداءاتهم. تحولّت جنين أخيراً إلى ملجأ للمطلوبين من الاحتلال والأجهزة الأمنية الفلسطينية، وهو ما يخافه الاحتلال، ويتذرّع به. واليوم، ثمّة تخوّف إسرائيلي، في ضوء تجربة الاحتلال مع جنين على وجه الخصوص، من تحوّلها إلى «عاصمة اشتباك»، وعودة العمليات الاستشهادية بناءً على المعلومات الأمنية لأجهزة الاحتلال.

«ساحة حرب»
يتحوّل، هنا، ما يعتبره الاحتلال اعتقالات «روتينية» إلى «ساحة حرب» كما وصفها المحلّل العسكري لصحيفة «معاريف» العبرية، ألون بن دافيد، يُضطر فيها العدوّ إلى استقدام قوات خاصّة من المستعربين و«يمام» لدخول جنين، وابتداع غطاء تمويهي لدخولها (وما يترتّب عن ذلك من عَتَاد خاص)، تارة عبر حافلة للبضائع، وتارة أخرى بسيارة إسعاف، أو مركبة مدنية، في الوقت الذي عادة ما توكل فيه مثل هذه المهامّ إلى الوحدات النظامية والاحتياط في الجيش الإسرائيلي، بتجهيزاتهم المعتادة، بينما تخضع الوحدات الخاصة بجنين إلى معايير مختلفة، تتطلّب التستُّر بالليل لدخولها حصراً، واعتماد المناظير الليلية، والتسلّل وفق آلية «كتم الأصوات وإخفاء التحركات»، ترافقها وحدات القنص الموزعة على سطوح المنازل. هنا بالتحديد، تتجلّى جنين كما يراها الاحتلال لا كما نراها نحن. هو يقرأ في جنين معادلات اشتباك مغايرة، ويدرك جيّداً مآلاتها؛ بحكم التجربة طبعاً، لذا كان الاقتحام محكماً، مختلفاً كما فرض عليه الميدان أن يراه. فكلّ عملية اعتقال في جنين، ستشهد اشتباكات مسلّحة، إنْ لم يكن عند اكتشاف القوّة المقتحِمة، فعند انسحابها.
جنين، ليس بتفرّدها بالمشهد فحسب، بل بحفظها لقواعد الاشتباك. منذ عام 1948، شكّلت جنين هاجساً للاحتلال وأفرزت سلسلة طويلة من الشهداء والاستشهاديين؛ من الاستشهادي رائد زكارنة الذي فجّر سيارته المفخّخة داخل محطّة باصات العفولة في عام 1994، ما أسفر حينها عن مقتل 9 صهاينة وجرح أكثر من 50 آخرين، إلى دورها في أحداث انتفاضة الأقصى، ووقوفها خلف عملية مطعم سبارو الشهيرة عام 2001، التي قتل فيها 18 صهيونيّاً في القدس بتوقيع الاستشهادي عز الدين المصري، مروراً بمعركة مخيم جنين عام 2002 التي ارتقى فيها أكثر من 100 شهيد، وكبّدت العدو أكثر من 40 جندياً لقوا حتفهم على مدار عشرة أيام من المواجهة.
وبعد عملية «السور الواقي»، ظنّ الاحتلال أنه قضى على بنية المقاومة في الضفة، لكنه سرعان ما أيقن تمرّد جذوة الكفاح في جنين، بعملية نوعية قام بتنفيذها الاستشهادي جهاد حمادة في مدينة صفد عام 2008، قتل فيها 12 صهيونيّاً. منذ ذلك الوقت، والمدينة تتعرّض لحملات «ترويض وتدجين» كي تنزع الكفاح المسلّح من أجندتها، وتلبسها ثوب «الفلسطيني الجديد» الذي حاول تفصيله الجنرال الأميركي كيث دايتون عندما كان مكلّفاً من إدارة بلاده، بتأسيس قوات أمن فلسطينية «جديدة». تلاه عقد من الزمن، تحوّلت فيه من مدينة ارتبطت بـ«العمليات الفدائية» إلى مدينة «سياحية مسالمة»، تستقبل أسبوعياً آلاف السياح من فلسطينيي الـ 48. فما الذي أعاد للمدينة ملامحها النضالية وحفظ استدامة قواعد الاشتباك؟

عودة جنين
لا يمكن تجاوز معركة «سيف القدس» كسبب مباشر لعودة تدفّق الفعل المقاوم في جسد جنين، لكن «جنين ما بعد العموري ليست كما قبله». بعد استشهاد الأسير المحرّر، جميل العموري، من «سرايا القدس»، عقب مطاردته من قوات الاحتلال في جنين في حزيران الماضي على خلفية إنشائه خلية مقاومة لتنظيم الاشتباكات مع الاحتلال أثناء أحداث هبّة القدس وما بعدها، جزمت استخبارات الاحتلال بأنه مع اغتياله، ستواجه الخليّة مصير الشتات. مرّة أخرى، فشل العدوّ في تقديره، لتتحوّل جنين، لأسابيع تلت، إلى مصيدة كمائن تستهدف دوريات الاقتحام.
يصف قائد فرقة المستعربين، المعروف بالرمز «د»، اشتباكات جنين، بالقول: «ذكّرتني باشتباكات لبنان... تحوّلنا إلى أوز في ميدان الرماية»، في إشارة إلى قرب مسافات الاشتباك (لا تتعدّى بضعة أمتار)، وكثافة النيران، بالإضافة إلى عنصر المفاجأة والسرعة.

الاحتلال يخشى «العدوى»
لكن الهاجس الأكبر للاحتلال يكمن في بروز «عدوى نضالية» تنتقل إلى مناطق أخرى في الداخل. ولعلّ ما حدث أخيراً في الاشتباك المسلّح الذي وقع بين قوات الاحتلال والشباب الفلسطيني في البلدة القديمة في نابلس، خلال اقتحام محلّ للصرافة في سوق الذهب، يؤكد مخاوفه؛ إذ تبعه، بعد أسابيع، استشهاد الفتى عماد حشاشة في مخيم البلاطة، أثناء تصدّي شبّانها للاقتحام بإلقاء حجارة الطوب من على سطوح المنازل، في الأسبوع نفسه الذي ارتقى فيه 4 شبان في جنين. هذه الاقتحامات المكثّفة للاحتلال في جنين بهدف إفراغ المدينة من حالة المقاومة إن دلّت على شيء فإنما تدّل على خشية العدوّ من سياسة «ليّ الذراع». فهو الآن أمام واقع جديد ــــ قديم من معادلة الاشتباك: «البارود بالبارود حتى الشهادة»، بالإضافة إلى تخوّفه من سيناريو «فتح الجبهات»، كأن تطلق «الجهاد» صاروخاً على مستعمرة سديروت من غزة، ردّاً على استشهاد الشهداء الأربعة في جنين، ثم تضطر حكومة نفتالي بنيت إلى التزام الصمت احتكاماً لأولوية التهدئة على غلاف غزة، ومنعاً للانجرار نحو جبهات متعدّدة داخلية تفقد فيها السيطرة. لذا، يسعى الاحتلال إلى تشويه جنين عبر ربطها بالفوضى والفلتان الأمني، استدراكاً للمؤشرات التي تلقي بمدلولاتها إلى الانفجار.