لا تُخفي تل أبيب معارضتها، بل وعداءها، لـ«وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين» (الأونروا)؛ إذ إنها ترى فيها تهديداً للمشروع الصهيوني ووليدته إسرائيل، عبر إدامة الهوية الفلسطينية، داخل فلسطين وخارجها. ومن هنا، سعى الكيان العبري، منذ تأسيس الوكالة، إلى توقيت انتدابها وتقليص صلاحياتها وحرف مهامّها، بما يخدم إنهاء القضية الفلسطينية. لكنّ الظروف كانت غير مؤاتية لإسرائيل لفرض إرادتها تلك على الوكالة حين تشكيلها، كما على الدول الداعمة لها، وفي المقدّمة منها الولايات المتحدة، التي تدعم «الأونروا» تقليدياً بما يزيد عن ثلث موازنتها العامّة السنوية، وهو ما ترى فيه واشنطن توجّهاً حيوياً يتيح لها السيطرة على الوكالة بما يخدم سياساتها تجاه الفلسطينيين والقضية الفلسطينية، ويمنع الآخرين من تثقيل حضورهم ونفوذهم فيها، على حساب النفوذ الأميركي.وتنظر إسرائيل إلى «الأونروا» على أنها منظّمة أممية تأسّست بقرار خاطئ على خلفية خاطئة، واستمرّت في مراكمة أخطائها حتى بعد سبعين عاماً على إنشائها، الأمر الذي أسهم، بحسب ادّعاءات تل أبيب، في إدامة الصراع مع الفلسطينيين، وتعزيز «الإرهاب»، وتشكيل خطر دائم على الدولة العبرية، سواءً داخل فلسطين المحتلة أو في خارجها. وفي مرحلة التسوية والعملية السياسية التي بدأت مع «اتفاق أوسلو» عام 1993، شكّلت الوكالة، وفق الرواية الإسرائيلية، عقبة في طريق «السلام» مع الفلسطينيين. وعلى هذه الخلفية، جاء الترحيب الإسرائيلي بقرار الإدارة الأميركية السابقة عام 2018، قطع التمويل عن «الأونروا»، مع الأمل بإمكان إنهاء وجودها. وعلى الخلفية نفسها أيضاً، جاء الأسف لاستئناف الإدارة الحالية عملية التمويل، والذي عُدّ «قراراً خاطئاً». وكانت تل أبيب تأمل، من خلال وقف التمويل عام 2018، إيقاف نشاط «الأونروا» أو تقليصه إلى حدّ تحوّلها إلى مجرّد شعار، مع إجراءات رمزية تدفع الفلسطينيين في الداخل والشتات إلى البحث عن بدائل لها، وتضطّر الدول المضيفة للاجئين إلى تولّي تقديم الخدمات الأساسية لهم بشكل مباشر، بالاستفادة من مساعدة دولية لتلك الدول في مرحلة انتقالية، بما يمهّد لاحقاً لتوطين الفلسطينيين، وإنهاء هويتهم الفلسطينية في الدول المضيفة.
وترى إسرائيل أن الخطأ الأوّل المرتبط بالوكالة، هو في تأسيسها عبر نزع صلاحيات «المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين»، وتحويلها إلى وكالة فرعية مستقلّة للفلسطينيين سُمّيت «الأونروا»، الأمر الذي كان من شأنه إبراز قضية هؤلاء بشكل دائم، في وقت تريد فيه تل أبيب طمسها. أمّا الخطأ الثاني فهو أن انتدابها، الذي بدأ مؤقّتاً وكان يُفترض أن ينتهي خلال سنوات قليلة، بات دائماً ويتجدّد تلقائياً كلّ ثلاث سنوات، بعدما تسبّبت الوكالة، بحسب الرواية الإسرائيلية، في مضاعفة عدد اللاجئين الفلسطينيين من 700 ألف في عام 1948، إلى ما بات يقرب من ستة ملايين لاجئ حالياً، كونها تُصنّف ابن اللاجئ الفلسطيني لاجئاً أيضاً، بينما عليها أن تبقي الصفة فقط على من «غادر» فلسطين المحتلة، دون أولاده وأحفاده. والمفارقة، أن نفس إسرائيل هذه، تقرّ لأيّ يهودي في العالم «غادر» أجداد أجداده منذ آلاف السنين فلسطين المحتلة، بحسب الرواية المعهودة، أن يعود إليها، على رغم أنه ليس اللاجئ الأصلي الذي «غادرها».
انطلاقاً من تلك السردية الإسرائيلية، يبرز تباين في الموقف من «الأونروا» بين كلّ من واشنطن وتل أبيب، من دون أن يعني ذلك إمكانية الإضرار بالأخيرة، إذ تنظر الولايات المتحدة إلى الوكالة من منظور المصلحة المشخَّصة في الإقليم بمركّباته وتعقيداته، وفقاً للسياسات والأهداف الأميركية الكبرى في المنطقة، الأمر الذي يفسّر تمسّك الإدارات الأميركية المتعاقبة ببقاء «الأونروا»، على رغم التحفّظ الإسرائيلي. أمّا قطع التمويل عنها في عهد إدارة دونالد ترامب السابقة، فجاء نتيجة تغليب نظرة طموحة ومتطرّفة في شأن إمكانية إنهاء القضية الفلسطينية، عبر الدفع في اتّجاه تطبيع العلاقات مع الدول العربية بمعزل عن الفلسطينيين أنفسهم. وطالما أنه ثَبُت فشل هذه الرؤية، فكان لزاماً على الإدارة الجديدة العودة إلى تموضع ما قبل سياسات ترامب، مع التمسّك بما يُعدّ إنجازاً حَقّقه الأخير، كما هو حال الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، فيما تبْقى «الأونروا» أداة تمكين وضغط أميركيَّيْن في الملعب الفلسطيني. باختصار، تُمثّل الوكالة أداة، سواءً من ناحية واشنطن أو من ناحية تل أبيب، مع تباين في ما يمكن التوصّل إليه عبرها. وإذ عمدت الإدارة السابقة إلى استغلالها للضغط على الفلسطينيين وفرض الإرادة الإسرائيلية عليهم وفشلت، فإن الإدارة الحالية لم تجد بدّاً من استرداد تلك الأداة، ومعاودة العمل على تحقيق المهمّة المرسومة لها، وفقاً للسياسات الأميركية الموضوعة للوكالة، وفي ذلك حديث آخر يطول