تتجاوز مصادقة «الكنيست» الإسرائيلي على الموازنة العامة لعامَي 2021 و2022، أبعادها التقليدية. ذلك أنها تأتي بعد أكثر من ثلاث سنوات من إقرار آخر موازنة عامّة عام 2018، ظلّت إدارة شؤون الكيان الاقتصادية مبنيّة عليها مذّاك، مع بعض التعديلات التي فرضتها المستجدّات، ومثّل استمرارها وجهاً ومن وجوه الأزمة السياسية والحكومية التي عاشتها إسرائيل خلال تلك الفترة، والتي فاقمت التداعيات الاقتصادية التي تسبّب بها انتشار فيروس «كورونا». ولذا، فإن المصادقة على الموازنة تُمثّل محطّة مفصليّة في مسار حكومة نفتالي بينت - يائير لابيد، لجهة ما تبثّه من أجواء استقرار يتطلّبها الوضع الداخلي، ومواجهة التحدّيات التي تشهدها المنطقة، وانعكاساتها على الأمن القومي الإسرائيلي. بتعبير آخر، نجحت الحكومة في توجيه رسالة سياسية هامّة إلى الداخل والخارج، عنوانها التماسك، على رغم ما تحتويه من تناقضات داخلية وخلافات حول العديد من القضايا والعناوين ومشاريع القوانين، فيما أثبت أطرافها بالممارسة العملية أن الجامع المشترك بينهم لمنع عودة بنيامين نتنياهو إلى رئاسة الحكومة، لا يزال يحتلّ الأولوية على حساب أيّ تحدّ أو خلاف داخلي. ومن هنا، يُراهن رئيس الحكومة ووزير خارجيتها على أن يساهم إقرار الموازنة في تراجع رغبة أعضاء «الكنيست» في الدفْع نحو إسقاطها. وكان رؤساء الأحزاب المشاركة في الائتلاف أرجأوا، بالفعل، مناقشة مشاريع القوانين المختلَف حولها إلى ما بعد المصادقة على الموازنة، بالنظر إلى أن تطييرها كان سيؤدي، بحسب نصّ القانون، إلى انتخابات مبكرة. لكن، من الآن وصاعداً، سيتجدّد التجاذب حول تلك المشاريع، وأبرزها تقييد فترة ولاية رئيس الحكومة، ومنع متّهم بمخالفات جنائية من تشكيل حكومة، فضلاً عن قانون منع لمّ الشمل المعنيّ بالعائلات العربية، ومسألة فتْح القنصلية الأميركية في القدس بعدما أعلنت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، إرجاء القرار بهذا الخصوص إلى ما بعد مصادقة «الكنيست» على الموازنة، نتيجة هشاشة الائتلاف الحكومي.
وبالعودة إلى اتفاق التناوب بين بينت ولابيد على رئاسة الحكومة، والذي قامت عليه الحكومة، فالمفترض أن يبقى الأول رئيساً حتى 23 آب 2023، وبعدها يتولّى لابيد الرئاسة ويتحوّل بينت إلى وزير للخارجية. لكن إلى ذلك التاريخ، يمكن أن تشهد إسرائيل والمنطقة الكثير من المتغيّرات التي قد تؤثّر على تركيبة الحكومة واستقرارها. على أن القدر المتيقّن في هذه المحطّة هو أنها بدّدت رهانات المتربّصين بالحكومة من الداخل، وأحبطت مساعي نتنياهو لإسقاطها، كما كان هدّد الأخير، واعداً بالعودة في أسرع وقت إلى منصبه. وانطلاقاً ممّا تَقدّم، فإن سؤالاً أساسياً يُطرح حول ما إذا كان إقرار الموازنة سيترك تداعيات داخل حزب «الليكود»، أو سيؤثّر على مستقبل نتنياهو في رئاسة الحزب، على اعتبار أن خطوة «الكنيست» الأخيرة وما سبقها وما سيليها، يؤكد لـ«الليكود» أنه ما دام نتنياهو رئيساً له، فلا عودة قريبة إلى رئاسة الحكومة، وأن الطريق إليها مشروط بإزاحته من القيادة. لكن في المقابل، لا تزال استطلاعات الرأي تمنح هذا الحزب الصدارة، على رغم انتقاله إلى صفوف المعارضة.
اقتصادياً، مثّلت المصادقة على الموازنة العامة تطوّراً هامّاً، كونها جاءت بعد أكثر من ثلاث سنوات من العمل وفق الموازنة الإثني عشرية، وبالاستناد إلى تعديلات قانونية فرضتها تداعيات انتشار وباء «كورونا». كما أنها تأتي بالتزامن مع تقديرات إسرائيلية وعالمية بأن الاقتصاد الإسرائيلي سيتجاوز هذه السنة خسائر العام الماضي، الناجمة عن القيود التي فرضتها الجائحة. وبحسب تقديرات «بنك إسرائيل المركزي»، سيبلغ النمو العام الجاري 7%، وفي العام المقبل، 2022، 5.5%، بعد حالة انكماش تسبّب بها انتشار «كورونا» سنة 2020 بنسبة بلغت 2.2%. وما يعزّز تلك التقديرات تواصُل انخفاض عدد المصابين بالفيروس، حيث بلغت نسبة الفحوصات الإيجابية 0.75%، مع استمرار التلقيح بالجرعتَين الثانية والثالثة. وانطلاقاً من ذلك، رأى محافظ «بنك إسرائيل»، أمير يارون، أن المصادقة على الموازنة تُعدّ بشرى هامّة للاقتصاد في هذا الوقت، كونها تسهم في إرساء حالة يقين إزاء مستقبل النشاط الاقتصادي.
على رغم ما تَقدّم، وإذا كان استقرار الحكومة والمصادقة على الموازنة يسمحان لها بالتفرّغ لمواجهة التهديدات المتصاعدة في بيئتها الإقليمية، فإن الكيان الإسرائيلي لا يزال يشهد تصدّعات اجتماعية غير مسبوقة دفعت معاهد الدراسات إلى إطلاق صافرات الإنذار إزاء هذا التحدّي المتعاظم. كذلك، وبالمقارنة مع تاريخها الذي يمتدّ لعقود، فإن مكانة إسرائيل الاستراتيجية اليوم تبدو في طور تراجُع متواصل، نتيجة استمرار تعاظم قدرات أعدائها.