على طرف مقبرة ضحايا حرب أيلول يتعارك طفلان. الأول يضرب الثاني وينعته بـ«البلجيكي». يأتي الأخير لوالده باكياً شاكياً. لم أفهم للحظة سبب حزن الطفل اللاجئ ولاسيماأن الوصف في ظاهره عاديّ. يروي الأب أنه في «أيلول» كان القتلى الفلسطينيون والأردنيون متشابهي الملامح لأنهم أولاد أرض واحدة. ما صعّب إحصاء قتلى الطرفين، لكن ظهر أن أبناء الوطن المهجّر يتميزون بلبس أحذية من صناعة بلجيكية عن أقرانهم ممن ينتعلون أحذية أميركية. من هنا بدأ الوصف الذي يستخدمه الأطفال حينما يخرجون عن براءتهم. واسيت الطفل قليلاً، فلا بأس أن يوصف الفلسطينيون بجنسية أوروبية يحلم بعضهم بالحصول عليها، حتى لو من باب المعايرة. تغيرت عمّان كثيراً، حتى المخيّمات طالها التغيير، هذا «الحسين» المقام بين جبلي النزهة والحسين أكبر شاهد. احتضن المخيم مقر إقامة ياسر عرفات قبل نصف قرن وها هو اليوم يحتضن عشرات آلاف اللاجئين بين بيوته الصغيرة، شأنه في ذلك شأن 12 مخيماً تحوي اللجوء الأكبر للفلسطينيين (4 ملايين ونصف المليون).
أما داخل البيوت فلم تتغير الحياة كثيراً. ما تركتَه قبل 15 عاماً قد تعود وتراه على حاله، الأولوية في حياة الناس هنا أن يبقوا على قيد الحياة بانتظار سماع خبر عن حلم العودة . لا داعي لتغيير البيوت وتعميرها إلا بزواج ابن، أو وفق ما يسمح به المال مقابل ظروف الشتاء القاسية.
الزواج أيضاً هنا اليوم كما الأمسِ، لن يكون إلا بابنة العم غالباً، من يقبل عيش شظف الحياة إلا شريك الهم نفسه؟ في المقابل ينزح من ساعدته يد القدر وأصبح غنياً نحو مناطق أكثر رقياً. طبربور مثلا منطقة قريبة من المخيم تحوي بنايات جديدة وشققاً جميلة يقطنها فلسطينيون لكن أحدهم يرى أن شكل حياتهم تغير، في حين أن عادات الناس تنتقل معهم من المخيمات إلى خارجها.
غداً هو الجمعة، يوم الإجازة المفضل للأطفال. يتناقش الأبناء والأهل في الذهاب إلى نزهة مميزة، فـ 7 جبال صحراوية مقامة عليها عمّان لا تبدو مكاناً مغرياً مقابل شوقهم للبحر، سرعان ما تتجه أفكارهم نحو العقبة، يقتحم حديثهم خبر عن اضطرابات في منطقة معان جنوباً.
«هدول بدهم يخربو البلد زي سوريا... مش بيكفي البضاعة الّي انقطعت من الشام وخربت الأسواق بعدها» يقول احدهم. يطمئنهم كبير الجالسين وهو عجوز شهد نكبة الـ 48 بالقول: «هاظ كلو حكي فاضي، تقلقوش، الدرك قوي بس ما بدو حل بالرصاص لأنو الدم بيطلب الدم».

ينزح من أصبح
غنياً نحو مناطق
أكثر رقياً
يعرض عليّ شابّ بحراً من نوع آخر، يقول إنه بتبديل حروف العقبة إلى البقعة تُحل المشكلة!. 
نتجه بالسيارة إلى مخيم آخر هو البقعة، لكن كيف يكون فيه بحر؟. يطلب قليلاً من الصبر حتى نصبح على منطقة عالية اسمها المطلّ. فعلا هذا بحر، لكن من البيوت. مخيم جديد أكبر من «الحسين»، يحوي 300 ألف لاجئ.
«أحكيلك سر، كل ما نتزاعل وحبيبتي بيجي هان قبل الغروب. شوية رح تشوف منظر رهيب بياخد العقل». ما إن يحل الليل حتى تظهر أضواء بيوت اللاجئين. بحر من الأنوار في ظلمة تطل من جبل. يلقبونه «شطّ البقعة».
بعدما تشبع نفوسنا من هذه الإطلالة نتذكر بطوننا الخاوية. لا مكان لنزهةٍ للاجئين َ محدودي الدخل سوى وسط البلد. هناك الأسعار أفضل بكثير من عمّان الغربية والمناطق التي تنشئ فيها عائلة الحريري مشاريعها الجديدة. تصل أعتاب المدرج الروماني القديم، يعلوه جبل الجوفة، وفي المقابل تلّة القلعة، بينهما وسط البلد وهو أقدم مناطق عمّان وأكثرها سيّاحاً خصوصاً من الخليجيين الذين صاروا يفضلون القدوم إلى هنا بدلاً من
بيروت.
«بلد المِلل»، هكذا يرى أحد التجار وجه البلد حين يتأمل وجوه زائريها. لم يتمكن هذا الرجل من السفر كثيراً ليعرف أن هناك بلاداً أخرى فيها ملل كثيرة أيضاً، لكنه يفتقد الوجه العربي بين أمواج الناس. مع ذلك يقدم للبيع ما لديه من تحف هي خليط من التراثين الفلسطيني والأردني... من الجنيه الفلسطيني القديم حتى منحوتات البتراء وجرش.
ما يزيد استمتاع الفلسطيني سماع أسماء عائلات مشابهة لما في غزة أو الضفة، فتنتعش ذاكرته مع أن غالبية لاجئي الأردن هم من الضفة. 
لكن هناك من لا يميز بين الضفة وغزة من ناحية الجغرافيا أو الواقع السكاني والسياسي. لهذا يشتكي الجيل الأول من المهجرين جهل أبنائهم بفلسطين، ويتمنون لو يصبح الشعب في الداخل منتخب كرة حتى يجلب اهتمام الجيل الجديد.
يتحسر كبار العمر على صعوبة زيارتهم غزة التي تُعامل كملف أمني يُستجوب من يذهب إليها. أما عن الضفة، فالمحظوظون هم الذين يحملون الهوية الخضراء والجواز الأردني. هؤلاء يستطيعون زيارة القدس ومدن الوطن .لكن الشباب أيضاً قلّما يفكر بزيارة مشابهة ليس لأنه لا يطيق رؤية الجنود الإسرائيليين في طريقه، بل بمبرر مفاده: «لم نزر فلسطين أساساً. صرنا أردنيين شئنا أم أبينا».




بالمقارنة بين مخيمات غزة ولبنان والأردن، تبدو الأخيرة أكثر استقراراً وأماناً. لا شيء يمثل تحدياً للناس بين الأمان والعودة ويكثر حديثهم عنه، سوى لقمة العيش. حتى التعليم فيها ليس أولوية أمام إيجاد فرصة عمل مبكراً، ولو اضطرهم الأمر إلى ترك الدراسة في الطفولة، لأن تربية «ابن السوق» ومن يستطيع البيع والشراء عند كثيرين منهم أوْلى من ابن الجامعة الذي لن يجد عملاً إلا إن حالفه الحظ وسافر إلى الخليج. هناك سيعامل جيداً إن كان يحمل جواز سفر أردنياً، وإلا فعليه البقاء في المخيم حتى حين.