«لا تهدر الرصاص، ولا ترتعد أمام العدو» كانت تلك وصية أم الشهيد محمود العابد، لنجلها قبل خروجه لتنفيذ عملية اقتحام لإحدى المستوطنات الإسرائيلية خلال انتفاضة الأقصى الثانية. في فلسطين، خُلّدت صورُ لعشرات الأمهات وهنّ يودّعن أبنائهنّ قبيل رحيلهم للاستشهاد في عمليات بطولية ضد الاحتلال. في هذا التقرير، تستذكر «الأخبار» بعضاً من تلك المشاهد، لأمهات بِتن أيقونات وطنية، لا تجود حضارات الشعوب كثيراً بأمثالهن.
أم نضال فرحات
القليل يعرف أن مريم محيسن، تحمل لقب «أم محمد»، لا «أم نضال». حملت الأم اسم ابنها محمد، رغم أنه ليس بكرها، فقد ظهرت «خنساء فلسطين» وهي تودع نجلها ابن الـ17 ربيعاً، قبل ذهابه لتنفيذ عملية فدائية، في مطلع شهر آذار من عام 2002؛ يومها، أردفت قبلات وداعها بوصيتها: «لا تعد إلي إلا مثخِناً في عدوك، محمولاً على أكتاف الرجال».

خاض محمد صاحب الملامح الطفولية، والذي رشحته أمّه إلى القائد العام لكتائب القسام آنذاك صلاح شحادة، لتنفيذ العملية، اشتباكاً شرساً مع حامية مستوطنة «عتصمونا» المقامة على أراضي القطاع، وحده، فقتل الحراس ثم اقتحم غرف الجنود وأطلق النار عليهم من مسافة صفر. وقد وصف التلفاز الإسرائيلي العملية بقوله: «عملية عتصمونا صعبة، وهي أكبر من عمر منفذها».

عاد الشاب المقتحم، إلى أمه كما أوصته تماماً، بعد أن قتل تسعة من جنود الاحتلال في واحدة من أكثر مستوطنات القطاع تحصيناً. غير أن مشهدية وداعه، لم تكن إلا أول فصول عطاء الأم،، فقد آوت ابنة حي الشجاعية في منزلها، العشرات من المطاردين والمطلوبين، من أمثال عماد عقل، القائد القسامي الشاب، الذي اتخذ من منزلها منطلقاً لعملياته، قبل أن يقضي على أعتابه عقب حصار قوة كبيرة من جيش الاحتلال له.

ولم ترحل «أم نضال» إلا بعدما قدمت في الطريق الذي ارتضته لنفسها، اثنين من أبنائها؛ فقد قضى ابنها البكر نضال في عام 2003، في عمر الحادية والثلاثين، وهو صانع صاروخ المقاومة الأول، وواضع بذرة تصنيع الطائرة المسيرة الأولى «أبابيل». ولم يكد يمضي عامان على رحيل البكر، حتى اغتالت الطائرات الإسرائيلية (في عام 2005)، رواد، ثالث أبنائها الشهداء، وأصغر أبنائها الستة.

رحلت أم نضال في عام 2013، بعدما واست الجميع، ورفضت أن يواسيها أحد. عايشت في حياتها فقد الأبناء «قتلاً وأسراً»، وفقدان البيت الذي قصف أربع مرات.

أم محمد الشيخ خليل (أم رضوان)
«نذرت من أبنائي ثلاثة فداءً لفلسطين... لكنهم زادوا إلى خمسة» هذا ما كانت قد عزمت عليه فاطمة يوسف الجزار، أمّ القائد العسكري الأبرز لـ«سرايا القدس» في الانتفاضة الثانية، محمد الشيخ خليل.

ابنة مخيم يبنا للاجئين جنوب قطاع غزة، بدأت حياتها مع الفقد مبكراً، بعدما طُورد نجلاها شرف وأشرف، واضطرا لمغادرة القطاع خلال انتفاضة الحجارة في عام 1987، ليستقر بهما المطاف في لبنان. هناك، قضى نجلها الأول خلال مشاركته في عملية بليدا الفدائية، بالاشتراك مع المقاومة الإسلامية؛ وبعدها بعامٍ واحد، فقدت «أم المجاهدين» نجلها الثاني خلال مشاركته في التصدي لإنزال جوي إسرائيلي.

غير أن انتفاضة الأقصى الثانية، ستحمل القسط الأكبر من فاتورة العطاء، إذ سطع نجم نجلها محمد، كأحد أبرز القادة العسكريين لـ«سرايا القدس»؛ إذ خطط وأشرف على تنفيذ العشرات من العمليات الفدائية، التي تميّزت جميعها بالدقة العالية في التخطيط، والإبداع في التنفيذ.

عايشت الحاجة «المجاهدين» في كثير من ليالي رباطهم، سنوات الفقد المتتالية. وبدأت باكورتها المعاصرة في عام 2004 باغتيال نجلها المهندس محمود، ثم وبعد عدة محاولات اغتيال، نجحت طائرات الاحتلال في عام 2005 في اغتيال نجلها القائد محمد، وبذلك، زادت الأم على نذرها واحداً، ووقفت والدة الشهداء الأربعة على رأس نجلها الرابع مؤكدة: «والله لو 100 ابن، ما وجدت لهم طريقاً أشرف ولا أعز من طريق المقاومة».

وبعد ستة أعوام، عادت أم محمد، إلى واجهة المشهد، فقدمت نجلها الأصغر أحمد، في عام 2011، الذي قضى إثر عملية اغتيال خلال تنفيذه تجارب صاروخية. يومها أمّ الصحافيون منزلها لرصد مشهدية الوداع الخامسة، وأمام الجسد المسجى، سألها أحد الصحافيين، ألم تكتفِ يا أم رضوان لتجيب: «لا حل لهذا الوجع إلا بمزيد من المقاومة، سأستمر في تقديم الشهداء حتى يأذن الله بالنصر... على استعداد أن أقدم بقية أولادي من أجل القدس. لن تكسر دبابات الاحتلال إرادتنا، وسنبقى على العهد ما حيينا».

رحلت «خنساء الأمة» كما يسميها الناس في غزة، بعد صراع مع المرض في عام 2016، وكانت رددت في وداع كل أبنائها: «سلم على أخوك... لن أتأخر عليكم».

عطاء مستمرّ
أم جبر وشاح، وأم إبراهيم الدحدوح، وأم جهاد شيخ العيد، وأم إبراهيم بارود وأم أحمد السكافي، وغيرهن الكثير؛ هؤلاء جميعهن، صنعن الصورة الفارقة للأمهات الفلسطينيات، اللواتي عرفن جيداً، كيفية كونهن أمهات أكبر من حدود العائلة. أمهات فلسطين.