«ولدينا عمل قبل الإفطار جليل كاللهسنخرب...»
(قصيدة عبد الله الإرهابي، مظفر النواب)


«بلجان» (فوضى)، هي الكلمة العبرية الأكثر دقة لوصف المشهد المعقد الذي سيطر على تل أبيب ليلة أمس. ففي ظلّ الاستنفار الأمني، ورفع حالة التأهب، في أعقاب ثلاث عمليات «فتاكة» خلّفت 11 قتيلاً إسرائيلياً في أسبوع، تمكّن مقاوم من الوصول إلى أكثر الشوارع إزدحاماً في تل أبيب: «ديزينغوف»، مُشهراً مسدسه بوجه روّاد «البار الأكثر فرحاً في الشارع»، كما يعرّف «هإليكا بار» عن نفسه في صفحته. وتماماً عند انتهاء الـ»happy hour»، قتل إسرائيليين اثنين، وأصاب 15 آخرين، بينهم خمسة بحال الخطر. لم تنتهِ العملية هنا؛ أكثر من 1000 عنصر انتشروا في شوارع تل أبيب، بينهم جنود هيئة الأركان العامة (سييرت متكال)، ووحدة «مكافحة الإرهاب»، والوحدة الشرطية الخاصة (يمام)، وجهاز «الشاباك»، ووحدة «شييتت 13»، ووحدة «شلداج»، لم يتمكّنوا بعد مضيّ ساعات على العملية من تحديد هوية المقاوم، والقبض عليه. إخفاقٌ يضاف إلى سلّة فشل أجهزة الأمن الإسرائيلية، ويضع حكومة العدو المتخلخلة أصلاً، ورئيسها، نفتالي بينيت، في مفترق خطير قد ينذر بنهايتها.
على الأرض، كان العناصر يتراكضون من حيّ إلى حيّ، ومن شارع إلى آخر، يدخلون مبنى قبل خروجهم من ثانٍ، باحثين فعلياً عن إبرة في كومة قش، وهم يتصبّبون عرقاً، وسط انتشار المستوطنين المسلحين في الشوارع، وهو ما رأى فيه المحلل العسكري لـ»القناة 13» الإسرائيلية، ألون بن ديفيد، «أمراً خطيراً يؤثر على العمليات الميدانية». وبينما كان العدو يخطّط لاستهداف شمالي الضفة تحديداً، من حيث انحدر الشهيد ضياء حمارشة، منفّذ عملية بني باراك، قبل أسبوع، دافعاً بعدّة كتائب وتعزيزات من الجيش والشرطة ووحداتهما الخاصة والنخبوية، في إطار عملية «كاسر الأمواج»، وجد نفسه يغرق في قاع تل أبيب، وتحديداً في الشارع الذي يحتفظ فيه الاسرائيليون بذكريات سيئة من عام 1994، عندما قتل الاستشهادي صالح نزال 22 اسرائيلياً وأصاب 47 آخرين رداً على مجزرة الحرم الإبراهيمي، وأيضاً من عام 1996 حيث قتل الاستشهادي رامز عبيد 13 جندياً وجرح 120 آخرين، وأخيراً من عام 2016 عندما قتل الفدائي نشأت ملحم ثلاثة مستوطنين وأصاب عشرة آخرين. والأخير وصفه العدو بالشبح؛ حيث استطاع البقاء متخفّياً لمدّة 10 أيام بعد عمليته، إلى أن وُجد في مسقط رأسه، قرية عرعرة في الأراضي المحتلة عام 1948، وهو ما رأى فيه بن ديفيد تشابهاً مع سلوك منفّذ عملية الأمس، الذي نجح إلى الآن في الاختفاء.
استدعت سلطات العدو قوات خاصة ونخبوية من الشرطة والجيش إلى المكان


وعن العملية، روى أحد المستوطنين، ويدعى يوسي، في مقابلة مع موقع «واينت»، أنه «كنا نجلس.. وفجأة سمعنا خمس طلقات نارية، وعلى الفور، بدأ الناس في الركض باتجاه المخزن، أدرت وجهي إلى الخلف ورأيت شاباً يرتدي خوذة، وسترة سوداء، يطلق النار باتجاه البار (إيليكا)». وتابع: «لقد شاهدناه يصعد إلى أحد الأبنية، وعندئذ، دخل الكثير من المواطنين المسلحين إلى المبنى، وبعد عشر دقائق وصلت قوات الأمن». وتطابقت هذه الشهادة إلى حدّ ما مع تعليمات الشرطة للإسرائيليين بالتبليغ عن شخص يرتدي كنزة قصيرة سوداء، وبنطالاً أسود، ويحمل حقيبة زرقاء، مسلحاً بمسدس. في المقابل، نقل الموقع عن شبان كانوا يرتادون بار «تسينا» في شارع «ديزينغوف»، قولهم إنهم «سمعوا إطلاق نار... على الفور أدركنا أن هذه عملية، ومن كان يحمل سلاحاً ركض في اتجاه اطلاق النار». وأضاف هؤلاء أنه «سمعنا أشخاصاً يتراكضون باتجاهنا، ثم سمعنا إطلاق النار، وعلى ما يبدو كانت طلقات من مسدس. أشخاص يتدافعون.. والكراسي تتطاير، هكذا كان المشهد». أمّا إحدى المستوطنات التي كانت تجلس في الحانة، فوصفت المشهد بأنه «تسونامي من البشر الراكضين». من جهته، قال المستوطن راز بارفيرمان: «كنت أجلس مع أحد الأصدقاء، سمعنا إطلاق نار فركضنا إلى الداخل. صعدنا إلى المطبخ للاختباء، وبعد دقائق هبطنا للأسفل، تقدّمت مع المسلحين باتجاه بار هإيلكيا حيث جرى إطلاق النار، ومشينا نبحث عن المخربين. أصدقاء آخرين بقيوا يعالجون الجرحى». وفي السياق نفسه، قال المسعف، عكيفا كأومبان، الذي أجلى جريحين اثنين، إنه «كان هناك الكثير من الفوضى... صرخات... أشخاص يركضون بكل الاتجاهات، ومن دون أن يفهموا بعد ما الذي حصل».
وفي أعقاب العملية، استدعت سلطات العدو قوات خاصة ونخبوية من الشرطة والجيش إلى المكان، وطائرات مروحية للمساعدة في عملية التمشيط، فارضةً إغلاقاً تامّاً لخطوط المواصلات العامة في وسط المدينة بشكل كلّي، خشية أن يتمكّن المقاوم من التملّص والهرب من خلالها؛ إذ يُعتبر «ديزينغوف» أحد أكثر الشوارع الرئيسية والمهمّة في تل أبيب، ويتقاطع مع مختلف التفرّعات، باحتوائه مركزاً كبيراً للتسوق، ومئات المحلات التجارية. ولم تكتف وزارة المواصلات بإغلاق خطوط النقل في وسط المدينة بشكل كامل فقط؛ إذ احتشد جنود العدو عند دوّار الساعة في مدينة يافا المحتلة، ناصبين حواجز فتّشوا خلالها كلّ الخارجين من تل أبيب ودقّقوا في هوياتهم. كما نصبت الشرطة عدداً من الحواجز في شارع رقم 4 بالقرب من منطقة وادي عارة.
وبعد حوالي ساعة من الهجوم، حاصر جنود العدو ومستوطنوه مبنى سكني بالقرب من «ديزنغوف»، مانعين المتواجدين وبضمنهم الطواقم الصحافية من دخول المبنى أو الاقتراب منه، فيما تحدثت وسائل إعلام عبرية عن احتمال أن يكون المنفذ في المبنى المذكور. وسط ذلك، كان رئيس وزراء الاحتلال، نفتالي بينيت، يجري تقييماً للموقف في «الكرياه» وسط تل أبيب، تَقرّر على إثره نصب مئة حاجز تفتيش على المفترقات، مع تركيز تدفّق القوات الإضافية إلى منطقة غوش دان، وليس إلى تل أبيب نفسها.