جنين | بعد ثماني ساعات من الرعب عاشتها إسرائيل، واستدعت خلالها آلاف الجنود ومختلف وحدات النخبة، وصل الخبر المؤكّد: جنين تصفع العدو على وجهه مجدّداً، بِيَد مقاومٍ مسلّح بمسدّس، كان يتمشّى في الشوارع قبل أن يُطلق النار، ثمّ يرتقي شهيداً، في عملية غير تقليدية. عمليةٌ حظيت باهتمامٍ فلسطيني واسع، فاق ذاك الذي لاقته العمليات السابقة، الأمر الذي يمكن إرجاعه إلى الجرعة العالية من الدراما والتشويق فيها، خصوصاً أن المقاوِم استطاع الانسحاب من المكان، لتبدأ رحلة مطاردته، ويتكشّف معها الفشل الإسرائيلي تباعاً.ولعلّ خطورة هذه العملية، وإحدى أبرز سماتها، تكمن في كونها غير تقليدية؛ إذ نُفّذت عبر مقاوِم مختلف عن الذين اعتادَهم العدو. ويقول أحد أقارب الشهيد، إلى «الأخبار»، إن «رعد فتحي حازم هو شاب (29 عاماً) يقطن في مخيّم جنين للاجئين، ولا علاقة له بأيّ أنشطة فصائلية أو عسكرية، وليس أسيراً محرَّراً من السجون الإسرائيلية». ويضيف أنه «ذكيّ للغاية، وناجحٌ جدّاً في حياته، يعمل في مجال البرمجة والحواسيب، ويملك شقة خاصّة به مستقلّة خارج مخيّم جنين». إذاً، لا يوجد انتماء واضح للشهيد، أو أيّ نشاط تنظيمي، و لكنه نشأ في كنف عائلة مقاوِمة ومحسوبة على حركة «فتح»؛ فوالده عقيدٌ في جهاز الأمن الوطني التابع للسلطة الفلسطينية، وكان مطارَداً ومطلوباً للعدو في الانتفاضة الثانية، واعتُقل بعدها لعدّة سنوات في السجون الإسرائيلية. كما أن الشهيد هو ابن شقيقة الشهيد عثمان السعدي، الذي ارتقى على أرض لبنان خلال معارك الثورة الفلسطينية، وهو أيضاً ابن شقيقة الشهيد محمد السعدي، الذي ارتقى في اشتباك مسلّح مع قوّة خاصّة إسرائيلية، في الانتفاضة الأولى. وفي أعقاب الكشف عن هوية منفّذ عملية تل أبيب، انطلقت مسيرة حاشدة من محافظة جنين، واحتشدت أمام منزل عائلة الشهيد رعد، حيث استقبلهم والده بخطاب قال فيه: «سترون النصر إن شاء الله في جيلكم، سترون النصر في عهدكم، في السنوات المقبلة، والأيام المقبلة». وأضاف: «رعد كان شابّاً خلوقاً طيّباً سمحاً، مصلّياً صائماً، مُرضياً وباراً بوالديه، ويتمتّع بذكاء خارق، ونحن لا نعلم من هو القدوة لابني، أو هل تأثّر بأحد شهداء جنين الذين ارتقوا أخيراً أم لا». وأشار إلى أن «آخر مرّة رأينا فيها رعد، كانت قبل أيام على مائدة الإفطار»، مضيفاً أن ابنه «استشهد صائماً، حيث اغتالته القوّات الخاصة».
مثل هذه العمليات لا تحتاج إلى تخطيط وتنفيذ على مراحل كثيرة ومتتالية


وفي تداعيات العملية، يؤكّد أحد مقاومي مخيّم جنين، في حديث إلى «الأخبار»، أنّ «الوضع الميداني آخذٌ في التصعيد»، مضيفاً أنّ «الأسابيع المقبلة ستشهد ارتفاعاً في منسوب الاشتباك بقوّة». ويلفت إلى أنّ «العدو الآن أمام تحدٍّ كبير ومعادلة جديدة، إذ إنّ الشهيد رعد هو المقاوم الأول الذي يخرج من مخيّم جنين وينفّذ عملية يسقط فيها قتلى منذ سنوات طويلة». وإذ يُشير إلى أنّ «العدو يهرب من فكرة المكوث في جنين ومخيّمها، كما أن عملياته هناك سريعة وخاطفة»، فهو يستدرك بأن الاحتلال «الآن، سيحتاج إلى اقتحام منزل عائلة الشهيد وأخذ قياساته تمهيداً للهدم، وهذا الأمر لن يكون سهلاً بل معقّداً، رغم أن المنزل يقع على أطراف المخيّم تقريباً». وبناءً عليه، من المتوقّع أن يشهد مخيّم جنين استنفاراً واسعاً بدءاً من الليلة، خصوصاً في محيط منزل عائلة رعد، وداخل المخيّم. كما يُتوقّع أن تشهد الأيام المقبلة مسيرات حاشدة مستمرّة إلى منزل العائلة، الأمر الذي يعني بالضرورة استمرار ظهور المقاومين المسلّحين، ورفع حالة الاستنفار ميدانياً.
في هذه الأثناء، غاب، للمرّة الأولى، التصريح المعتاد للمسؤولين الإسرائيليين، والذي يقول إن «المنفّذ كان تحت مراقبة الشاباك». إذ مثّلت العملية صفعة قوية لمنظومة أمن العدو، الذي سارع إلى استدعاء آلاف الجنود من مختلف وحدات النخبة، بما فيها وحدة «سييرت متكال» التابعة لهيئة الأركان مباشرة، والتي لم يسبق لها أن انتشرت في شوارع تل أبيب، منذ عملية الشهيدة دلال المغربي في عام 1978. في المقابل، باركت الفصائل الفلسطينية عملية تل أبيب، واعتبرتها ردّاً طبيعياً على جرائم العدو، لكن رئيس السلطة، محمود عباس، سارع إلى إدانتها، كالعملية السابقة التي نفّذها الشهيد ضياء حمارشة في «بني براك». وبدا لافتاً أن نصّ الإدانة الجديدة كان عبارة عن نقلٍ حرفي للإدانة السابقة، إذ قال عباس: «قتل المدنيين الفلسطينيين والإسرائيليين لا يؤدّي إلّا إلى المزيد من تدهور الأوضاع، حيث نسعى جميعاً إلى تحقيق الاستقرار، خصوصاً خلال شهر رمضان الفضيل والأعياد المسيحية واليهودية المقبلة».
بالنتيجة، يبقى انطلاق عمليات مسلّحة من جنين نحو الأراضي المحتلّة عام 1948، سيناريو غير معهود، ولم تشهده فلسطين منذ سنوات طويلة. وتكمن الخطورة، بالنسبة إلى العدو، في أن مثل هذه العمليات لا تحتاج إلى تخطيط وتنفيذ على مراحل كثيرة ومتتالية، إذ إنه لا توجد اتصالات ولا لقاءات مع تجّار أسلحة ولا تعدُّدية منفّذين. كما أنها ليست مكلفة، بل أثبت الشهيد رعد أنه بمسدّس واحد قد يتمكّن من توجيه ضربة قوية من الصعب كشفها مسبقاً، لأن المنفّذ لا يملك سجلّاً أمنياً، وليس أسيراً محرّراً، وبالتالي غير خاضعٍ للمراقبة، ولا يمكن التنبّؤ بما قد يُقدم عليه. وإذا كانت عملية بئر السبع قد جرّت عملية الخضيرة، التي كان منفّذاها من الداخل المحتل، وهجوم الشهيد ضياء حمارشة في بني براك، قد جرّ هجوم الشهيد رعد حازم في قلب تل أبيب، فإن الإشكالية الرئيسة اليوم بالنسبة إلى إسرائيل هي: كيف يمكن إحباط العملية التالية، من جنين إلى الداخل؟