"ملح، ملح، ملح... تنزيلات... تنزيلات. دعوة هنية بـ ٥٠٠، دعوة الحمد الله بليرات الله". هكذا عرض مسرح البسطة المقدسي مسرحية "الشارع" في رام الله، معلناً ورافعاً صوته وصوت الشعب ضد كل شركاء الصمت في لعبة الموت اليومي المفروضة على الشعب الفلسطيني، والتي وصلت إلى الأسرى السياسيين المضربين عن الطعام في سجون الاحتلال.
صوت يصدح في المدينة عالياً، فيكسر خجلها، ويُلملم حوله الناس وهم يستمعون الى اعضاء فرقة البسطة المسرحية وهي تنادي: "يلا ملح، ملح للبيع، تنزيلات ع هنية، تنزيلات ع الحمد لله".
ومجموعة البسطة المكونة من أربعة أشخاص، لا تنتظر أحداً، بل تبادر في الوصول للجميع، أينما كانوا ومهما كانوا، وهي تعتمد في أسلوبها المسرحي عروض الشارع، وتتشكل هويتها من الوعي الوطني، ومحاولة رفع الصوت ضد كل الممارسات السياسية من الطرفين. هكذا بدأ هؤلاء يوزعون صُرر الملح على المارة لأجل المضربين عن الطعام، وقرأوا وصية محمد القيق التي ربما ستكون الأخيرة.
محمد القيق، صحافي فلسطيني سابقاً، وهو معتقل سياسي الآن ما بين الموت والحياة، مضرب عن الطعام منذ تسعة وستين يوماً، ولا حياة لمن تنادي. هو شخص عادي لمن لا يهتم بما يفعله، ولكنه رمز لقضية الأسرى التي ما زالت ورقة متجددة عبر كل السنوات التفاوضية.
وهو، الى ذلك، أسير آخر يضاف إلى سلسلة الأبطال الذين يضربون عن الطعام في سجون ااحتلال. وعدد الأسرى الفلسطينيين بلغ في إحصائية للهيئة الدولية للصليب الأحمر منذ بداية الاحتلال لكامل فلسطين التاريخية منذ عام ١٩٦٧ ولغاية عام ١٩٩٤ ما يفوق نصف مليون أسير، أما اليوم فلا أقل من خمسة آلاف أسير يرزحون في السجون بين أسير إداري وغير ذلك. أضف الى ذلك استمرار حالة الاعتقالات والاختطاف والتنكيل حتى هذه اللحظة، ما يرفع عدد الأسرى الفلسطينيين باستمرار، وقد بلغ عدد شهداء التعذيب والعزل والمرض لـ ١٠٣ شهيداً.
"مسرح البسطة"، بسط أوجاعنا وصمتنا على عربة الخضار المتنقلة التي اعتدنا رؤيتها تبيع البطيخ والبطاطا والخيار والبندورة، والتي نراها الآن تتحول لعربة تسير في شوارع مدينة رام الله تبيع الملح، وتهدينا قوة مضاعفة لمن هم خارج السجون، تهدينا عزيمة ولهفة على المضربين عن الطعام في إصرارهم على الحياة، ومواجهة الموت بأمعائهم الخاوية، وأن نستشعر قوة هؤلاء الشباب الذين يرفضون أن يكونوا رقماً مخفيّاً في سجل هامشي، بل استمروا بالمقاومة من داخل غرفهم الضيقة والمعتمة، ليبقوا كابوساً للمحتل ومن يصطف إلى جانبه.
وبالرغم من أن رسالة القيق وصلت متأخرة للسياسيين النائمين والتائهين - كما سابقاتها الكثر - إلا أن الشارع الفلسطيني أزاح بيديه رماد جثث الأحزاب، وخنوع الساسة ليصرخ متألماً ويواجه جلاديه.
إضراب محمد القيق هو صفعة لمن يتراخى وقد تعب من المواجهة، وهي تجديد العهد الشعبي أن لا حلول سوى المقاومة والاستمرار في الحياة ولو بالماء والملح، لا أن يكون مصيرنا السجن أو الموت فقط.
أما آنَتِ الحياة للفلسطيني؟ أما آنَ للعبث بقدره أن ينتهي؟