«هذه الأمّة على موعد مع الدم، دمٌ يلوِّن الأرض، دمٌ يلوِّن الأفق، دمٌ يلوِّن التاريخ، دمٌ يلوِّن الدم. ونهرُ الدّم لا يتوقّف، دفاعاً عن العقيدة والأرض والأفق والتاريخ. دفاعاً عن الحق والعدل والحريّة والكرامة». بهذه الكلمات، أبّن مؤسس حركة «الجهاد الإسلامي في فلسطين»، الدكتور فتحي الشقاقي، واحداً من الذين عرفهم وعمل معهم وأحبّهم، الأمين العام لـ«حزب الله» الشهيد السيد عباس الموسوي، الذي اغتالته طائرات العدو الإسرائيلي في شباط 1992، عبر استهداف سيارته لدى عودته من إحياء ذكرى الشهيد الشيخ راغب حرب الذي اغتاله العدوّ هو الآخر في شباط 1984. بعد هذه الكلمات بنحو 3 أعوام ونصف عام، كانت الأمّة على موعد جديد مع الدم، وهذه المرّة دم فتحي الشقاقي نفسه، إذ اغتاله العدو الإسرائيلي في جزيرة مالطا، عندما كان عائداً من ليبيا، في تشرين الأول 1995.في تاريخ حركات المقاومة ضدّ العدو الإسرائيلي، وهو تاريخ قصير نسبياً، دأب العدو على تنفيذ عشرات عمليات الاغتيال التي طالت قادة أساسيين وفاعلين في التنظيمات العسكرية المقاوِمة، ولم ينجُ أيّ فصيل مقاوِم واجه العدو بجدّية في حقبة ما، من عمليات الاغتيال الكبيرة والدموية. في قطاع غزة تحديداً، ومنذ عام 2000 فقط، اغتال العدو أهمّ وأبرز قادة المقاومة، بدءاً من مؤسّس «كتائب القسام»، الجناح العسكري لحركة «حماس»، صلاح شحادة، ثمّ مؤسّس «حماس»، الشيخ أحمد ياسين، عام 2004، مروراً بالقائد المؤسّس في الحركة أيضاً، عبد العزيز الرنتيسي، ثمّ لاحقاً أحمد الجعبري، نائب القائد العام لـ«كتائب القسام»، في عام 2012، حيث اندلعت بعد اغتيال الجعبري جولة قتالية عنيفة، استمرّت 8 أيام، قُتل فيها نحو 20 إسرائيلياً، واستشهد 162 فلسطينياً. ومنذ ذلك الاغتيال، ارتدعت إسرائيل عن تنفيذ اغتيالات في قطاع غزة، بعدما تأكّد لديها أن أيّ اغتيال سيؤدي الى جولة من القتال، قد تكون نتائجها أكبر ممّا يمكن للعدو هضمه.
لكن هذا الارتداع، تجاوَزه العدو في كانون الثاني 2019، حينما اغتال بهاء أبو العطا، قائد المنطقة الشمالية في «سرايا القدس»، الذراع العسكرية لحركة «الجهاد». وفي الوقت نفسه، حاول العدو اغتيال القيادي البارز في «سرايا القدس»، أكرم العجوري، عبر استهداف منزله في دمشق، حيث استشهد أفراد من أسرته، ونجا هو. يومها، ردّت «الجهاد» بإطلاق نحو 450 صاروخاً على أهداف إسرائيلية خلال يومَين. وبعد عامَين ونصف عام، أي الأسبوع الفائت، عاد العدو ليغتال قياديَّين من أهمّ قادة «سرايا القدس»، تيسير الجعبري (وريث أبو العطا)، وخالد منصور، القيادي المجرّب والمعروف. المتغيّر الذي وقع، ودفع العدو إلى العودة إلى تفعيل سياسة الاغتيالات ضدّ قادة «الجهاد» حصراً، هو تقديره أن أيّ ردّ قد تقوم به الحركة «منفردة»، سيكون ضمن السقف والحدود، إذا ما ووجه بإجراءات صحيحة ومشدّدة، تحجب الأهداف عن أعين المقاومين، كما حصل خلال الأيام القتالية الماضية.
وقعت الاغتيالات هذه المرّة إذاً، وقد تقع في مرّات مقبلة أيضاً، حيث ستكون حركة «الجهاد»، وربّما حركات وقوى أخرى، على مزيد من «مواعيد الدم». قبل أيام، وفي عزّ التصعيد في غزة، لم ينسَ وزير الأمن في حكومة العدو، بني غانتس، تهديد ما سمّاها «قيادة حركة الجهاد في الخارج»، وحدّد «طهران ودمشق وبيروت»، وأكد أن هذه القيادة «ستدفع الثمن». لكن حسابات غزة الحالية، كما يقدّرها العدو، والتي سمحت له بالاستفراد بـ«الجهاد»، لا تطابق حسابات «الخارج»، الذي تُحدّد حدود التحرّك فيه معادلات ردع وتوازنات تدرك إسرائيل أن لاختراقها أثماناً قد لا تكون قادرة على تحمّلها.
على أيّ حال، وبغضّ النظر عن أهمية فرض معادلات ردع تمنع العدو من تنفيذ اغتيالات في كلّ ساحات المقاومة، تُعلّمنا تجربة حركات المقاومة ضدّ هذا العدو المجرم والغادر أن الاغتيالات، مهما بلغت، لا تغيّر في المسار العام لتطوّر المقاومة وتعزيزها، على الصعد كافة؛ وأن خسارة القادة، مهما بلغت فداحتها، يردمها قادةٌ جدد مدفوعون برغبة الثأر لقادتهم ومعلّميهم، وتثبيت معادلات تكسر يد العدو، وتردعه.