نجحت المقاومة في الضفة الغربية في اختراق الجدار الذي تشكَّل بفعل التنسيق بين قوات الاحتلال وأجهزة أمن السلطة الفلسطينية، فارضةً واقعاً جديداً تحوَّل إلى مصدر تهديد للعمق الإسرائيلي في أراضي الـ48، كما للمستوطنين وجنود الاحتلال في الضفة. وبسبب فشل الاقتحامات الإسرائيلية المتتالية في إخماد جذوة المقاومة، رفع رئيس «الشاباك»، رونين بار، الصوت، محذّراً، في كلمة له أمام المؤتمر السنوي لـ«معهد سياسة مكافحة الإرهاب» في جامعة «ريخمان»، من أن إسرائيل دخلت في «دائرة مغلقة، بسبب ارتفاع عدد العمليات في الضفة الغربية وعدم قيام أجهزة السلطة بدورها، وفي ضوء تراجع سيطرتها». ودفَع هذا الواقع، بحسب بار، قوات الاحتلال إلى تكرار اقتحاماتها لمدن الضفة وبلداتها، وتالياً إلى «وقوع إصابات في صفوف الفلسطينيين، وتراجع مكانة أجهزة أمن السلطة»، والذي يمهّد بدوره الأرضية لتنامي المقاومة.بالنتيجة، وجدت سلطات العدو نفسها أمام خيارات مقيّدة؛ فهي إنْ امتنعت عن المبادرة إلى توجيه ضربات للمقاومين في الضفة، سيؤدّي ذلك إلى اتّساع نطاق تحرّكهم وتعزيز مبادراتهم العملياتية؛ وإنْ واصلت اقتحاماتها، فهذا يعني مزيداً من المواجهات وتسريعاً لوتيرة تقويض مكانة أمن السلطة، والذي من شأنه أن يوسّع هامش الفعل المقاوم. ومع أن «الشاباك» يُعدّ الجهاز الأكثر خبرة بالساحة الفلسطينية والمسؤول الأول عنها، إلا أن رئيس الاستخبارات العسكرية، «أمان»، اللواء أهارون حاليفا، لمّح - في سياق المفاضلة بين الخيارات - إلى أهميّة مواصلة سياسة العمليات الأمنية والعسكرية في الضفة، وذلك تعليقاً على التحذير المصري من أن هذه العمليات ستؤدّي إلى «الفوضى»، قائلاً: «كان سيسعدني عدم اعتقال عشرات المطلوبين كل ليلة، على أن تقوم الأجهزة الأمنية الفلسطينية بذلك». أمّا الرئيس السابق للاستخبارات، اللواء تامير هايمن، فذهب أبعد ممّا تَقدّم، بالتحذير من أن «انتفاضة ثالثة قد تكون سيناريو معقولاً»، خلال معارك وراثة «أبو مازن» في السلطة الفلسطينية. وربط هذا السيناريو بما سمّاه «فشلاً كاملاً لمفهوم أبو مازن للتسوية السياسية»، نتج منه ضعْف السلطة الفلسطينية وتقوية حركتَي «الجهاد الإسلامي» و«حماس» في الضفة الغربية. وباقتران تلك العوامل بالفساد، فقد تبلور، بحسب هايمن، «واقعٌ شديد الانفجار، ويمكن لأيّ زناد صغير استغلاله».
تعود الخيارات وتدور في الدائرة المغلقة نفسها التي حذّر منها رئيس «الشاباك»


على هذه الخلفية، فإن التحذيرات والمخاوف التي تتصاعد في أعقاب كلّ فعل مقاوم، تعود إلى كون هذه الأفعال جزءاً من اتّجاه مستمرّ ومتصاعد منذ آذار الماضي، بحسب التقديرات الإسرائيلية. ولا يرجع ذلك، بحسب دراسة صادرة عن «معهد أبحاث الأمن القومي»، إلى أزمة اقتصادية «ليست في ذاتها سبباً يفسّر الظاهرة»، إنّما إلى اتّساع نطاق الوعي بالصراع، والذي تتمّ تغذيته بواسطة ارتفاع حدّة الاشتباك العنيف مع الجيش الإسرائيلي، ومن الشعور بالنجاح، وأيضاً من الفراغ السياسي الذي خلّفه غياب السلطة. وتضيف الدراسة أن «صورة السلطة ومكانتها تضرّرتا بشكل قاسٍ في عيون المجتمع الفلسطيني، إثر فشلها في الدفع قُدُماً بالرؤية القومية، أو طرْح أفق سياسي». ومن الواضح أن ما يثير قلق القيادة الإسرائيلية، أن تلك العوامل ليست ظرفيّة ولا طارئة، وهو ما يعني أن إسرائيل قد تكون أمام مرحلة جديدة من المواجهة مع الشعب الفلسطيني. وبهذا، تكون المقاومة في الضفة قد ارتقت في تكاملها مع قطاع غزة في مسار سيؤدّي حُكماً، ولو بعد حين، إلى تلاحم الساحات ووحدتها في المعركة القائمة ضدّ الاحتلال.
وإذ تُجيز العقلية الأمنية الحاكمة في تل أبيب ترجيح خيار مواصلة الاعتداءات في الضفة، على رغم كلّ المحاذير القائمة، ممّا سيؤدّي بالضرورة إلى ارتفاع إضافي في حالات الاشتباك وعدد المصابين الفلسطينيين، يمكن التأكيد أن إسرائيل ستتدحرج في سياق المعضلة الاستراتيجية التي تعيشها، لتجد نفسها، بحسب دراسة «معهد أبحاث الأمن القومي»، بين خيارَين: «مبادرة سياسية تحضيراً للانفصال - حتى لو كان محدوداً -، تشير إلى اعتراف إسرائيلي بالسلطة الفلسطينية كشريكة في مسار اتفاق يساعد على تحسين حُكمها والاقتصاد في مناطقها، ويشجّع على تقويتها كبديل ممّن يقود المقاومة المسلّحة»، وهو سيناريو تكاد تكون فرص تحقُّقه معدومة في ظلّ الوضع السياسي الداخلي الإسرائيلي؛ أو «خطوة عسكرية واسعة، على نمط السور الواقي، لاجتثاث بنية المقاومة التي تتطوّر في شمال الضفة وتمتدّ إلى وسطها وجنوبها»، في سيناريو تحاول إسرائيل تجنّبه حتى الآن، لأنها تدرك نتائجه وتداعياته، خصوصاً في ظلّ الأولويات التي تفرض نفسها على القيادتَين السياسية والأمنية. ولا تقتصر المخاوف من التصعيد في الضفة فقط على تل أبيب، وإنما تشمل، بحسب صحيفة «هآرتس»، الولايات المتحدة ومصر وقطر والإمارات، وجميعها تبذل جهوداً للتهدئة. لكن المعضلة الأهمّ بالنسبة إلى إسرائيل، أنه لا يوجد بديل فعلي من أجهزة أمن السلطة، وفق ما أكد العديد من مسؤولي الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، مشدّدين على أنه ليس أمام تل أبيب سوى خيارَين أساسيَّين: مساعدة الأمن الفلسطيني على إعادة بسط سلطته خصوصاً في شمال الضفة؛ أو الوقوف جانباً ومراقبة انهيار السلطة الأمر الذي سيفرض على الكيان العبري التورّط في داخل الفراغ الذي سيتشكَّل.
في الخلاصة، بين مَن يدفع نحو عملية عسكرية واسعة في منطقة جنين بشكل خاص؛ ومَن يعتقد أن مواصلة الاعتقالات ستفاقم من حدّة اللهب، وأن المسار الوحيد المتاح هو مساعدة السلطة على استعادة هيبتها، تعود الخيارات وتدور في الدائرة المغلقة نفسها التي حذّر منها رئيس «الشاباك».