لم يكن يوم أمس، يوماً «عادياً» من أيّام أرضٍ محتلّة كالضفة الغربية. يبالغ البعض حين يقولون: «هذا الطبيعي»، ويعتقدون بأنه ممكن في كلّ وقت وحين، وهو يَبرز الآن بالمصادفة فقط، أو وفق التطور التلقائي للأحداث. إلّا أن مراجعة سريعة لأحداث الضفة خلال العام الأخير فقط، تُظهر أن المشهد الراهن سبقتْه مراحل طويلة من الإعداد وتطوير الآليات وبرامج العمل، في سياقٍ أشرفت عليه فصائل المقاومة بمختلفها. «بيئة العمل» هناك، لا تواجه فيها المقاومة العدو الإسرائيلي الذي يراقب ويتابع كلّ صغيرة وكبيرة تتّصل بعملها فقط، بل وأيضاً مجموعة كبيرة من العوائق الأمنية والحزبية وحتى النفسية والمعنوية.قبل نحو شهر فقط، ومن مجموعة «عرين الأسود» نفسها، اعتقلت الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة، المقاوِم مصعب اشتية، الذي يُعتبر أحد مؤسّسي «العرين» وقادتها، ولا يزال معتقلاً إلى اليوم، من دون محاكمة أو تهم واضحة. هذا في الترهيب، أمّا في الترغيب، فقد جهدت أجهزة السلطة، مباشرة أو عبر وسطاء و«وجهاء»، في الضغط على المقاومين، وخصوصاً مقاومي نابلس، للدخول في ما يشبه «التسوية»، في محاولة لتكرار تجربة ما بعد الانتفاضة الثانية، حيث يسلّم المُطاردون أسلحتهم، مقابل ضمّهم إلى صفوف الأجهزة الأمنية الفلسطينية، ورفع الملاحقة الإسرائيلية عنهم.
أمّا في ما يمكن تسميته «العوائق الحزبية»، فمن المعلوم أن التنافس الفصائلي السياسي دائم الاحتدام في الضفة، حيث النفوذ الأكبر لحركة «فتح»، وتُنافسها بقوة حركة «حماس»، ثم تأتي الفصائل الأخرى كـ«الجهاد الإسلامي» وغيرها. وهذه المنافسة القديمة والمتجدّدة لطالما شكّلت سبباً لـ«الخلاف»، الذي يؤثّر في عمل أيّ مجموعة مقاومة، ويؤخّر نموّها ويضعف شعبيّتها. وبالإضافة إلى ما سبق، تأتي الحواجز النفسية والمعنوية، حيث إن تراجع حضور «المقاومة المسلّحة» في الضفة، منذ ما بعد الانتفاضة الثانية حتى أواخر العام الأخير، أي لأكثر من 10 سنوات، بنى حوائل نفسية ومعنوية بين الشبّان الفلسطينيين الذين تعلّموا وسافروا وانخرطوا في وظائف بمداخيل متوسّطة، أو مارسوا أعمال التجارة المربحة، وبعضهم مع تجّار وزبائن إسرائيليين في مستوطنات الضفة أو في مدن الداخل، وبين الانخراط في العمل المقاوم الذي غالباً ما تكون خاتمته المطاردة حتى الاعتقال أو القتل. كلّ هذه العوائق، مُضافاً إليها الحصار الإسرائيلي وإجراءاته الأمنية والاستخبارية المشدّدة، نجح المقاومون في تجاوزها بنبل مدهش، واستعداد للتضحية بكلّ شيء. وانطلق مسار بناء «الحاضنة» الصلبة للفعل المقاوم، بالتوازي - وربّما قبل - مع بناء المجموعات القتالية والبحث في تدريبها وتسليحها.
منذ البداية، أدرك مختلف العاملين على تفعيل المقاومة في الضفة، أن الهدف الأول هو إعادة الاعتبار للعمل المقاوم بشكل عام بين الجمهور عامة، وتثبيته كخيار في مقابل خيار «التنسيق الأمني» والحلول «السلمية». وتطلّب هذا السياق، إبراز النماذج وصناعة القدوة للشباب الفلسطيني، فكان منفّذو العمليات الفدائية في الداخل المحتل العام الجاري، كضياء حمارشة ورعد حازم، وقبلهم كان في الذاكرة القريبة باسل الأعرج وأحمد جرار، وغيرهم. أما أخيراً، فاحتلّ الشهداء إبراهيم النابلسي وعبود صبح ومحمد العزيزي، وأمس وديع الحوح، صدارة المشهد، حيث بدا واضحاً التأثّر العارم بهم وبسيَرهم ومقاتِلهم، ما أدى تلقائياً إلى كسر الحواجز النفسية والمعنوية، ودفَع الشبان إلى الانخراط في مجموعات المقاومة المحلّية. هذا مع الإشارة إلى أن هؤلاء ليسوا جميعاً بالضرورة منتمين إلى فصائل مقاومة، أو تلقّوا تعليمات أو تدريبات منها، بل بعضهم نفّذوا عمليّاتهم بشكل فردي تماماً.
ولعلّ أهمّ ما يميّز «المقاومين الجدد» في الضفة الغربية، هو انتظامهم في مجموعات مقاومة محلّية في جنين ونابلس وطولكرم وغيرها، من دون إبراز أيّ انتماء فصائلي واضح، وإن كان بعض أعضاء هذه المجموعات ينتمون فعلياً إلى فصائل فلسطينية، إلا أن إخفاء الانتماء، أو مواراته، ساهم في تمدّد الحاضنة الشعبية للمقاومين، وتجاوز «الحالة الحزبية»، والارتقاء إلى «الحالة الوطنية»، المفضّلة في الضفة، والتي لا تستطيع السلطة ضربها، أو حتى محاربة التضامن والتعاون معها. وليس ذلك فقط، بل ساهم الشكل الوطني للمجموعات، في دفْع العديد من أبناء الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة، إلى الانخراط في أعمال المقاومة، سواءً بشكل فردي، أو بشكل جماعي، كما فعلت القوّة الأمنية الفلسطينية التي افتتحت الاشتباك مع قوات العدو الخاصة في نابلس أمس، حين اكتشافها وهي في طريقها إلى مهاجمة «عرين الأسود».