أضحت عبارة «الذي قَتل عرفات هو مَن استفاد من غيابه عن المشهد»، لازمة كرّرها العشرات من القادة السياسيين الذين شملتْهم التحقيقات. بدت تلك اللازمة وكأنها التفاف على العبارة التي يُراد منها أن تشير إلى أن «أبو مازن وحاشيته هم مَن قتلوا عرفات»، لكن بطريقة لا تسجِّل على أحد نقطة سوداء ستصل في نهاية الأمر إلى «رئيس المقاطعة» الحالي. وإذا كانت للسياسيين حسابات تفرض عليهم وزْن أقوالهم بميزان الذهب، فقد كان رجال الأمن، وخصوم عباس الحاليون، ومَن بلغ من رجال السلطة من العمر عِتيّاً، أقلّ حيطة في حديثهم؛ إذ لم يُخفِ أحمد قريع، وهو رئيس الوزراء الذي تولّى الحكومة عقب استقالة حكومة محمود عباس، والتي فرضتْها الإدارة الأميركية على أبو عمار عام 2002، أنه سمع عباس يردّد أكثر من مرّة، أن «عرفات قد خرفن»، قبل أن يتجرّأ أفراد حاشية «كرزاي فلسطين» كما سمّاه أبو عمار آنذاك، مِن مِثل نبيل عمرو والطيب عبد الرحيم وحسين الشيخ، على استخدام عبارة «الرئيس خرفن» كمعزوفة يردّدونها في كلّ مجالسهم. لم يكن الاغتيال المعنوي الذي تعرّض له «الختيار» مستنداً إلى الهَباء؛ إذ رتّب فريق عباس - وفق ما كشفت التحقيقات -، وشخصياتٌ التقت مصالحهم معه، مِن مِثل قائد «التيّار الإصلاحي» الحالي محمد دحلان، تلك المكيدة، وهو ما أضحى حقيقة تتجاوز التحليل، وفق إفادة حنان عشرواي التي قالت: «كنتُ مقتنعة بأنهم سيقتلونه في النهاية». لقد أصبح عرفات، بعد فشل كامب ديفيد وانطلاق الانتفاضة الثانية، «مستهدَفاً من قِبَل الإسرائيليين الذين أخذوا الضوء الأخضر من الأميركان»، بحسب ما قاله عضو «اللجنة المركزية لحركة فتح» جمال محيسن. رفع الأميركيون الغطاء عنه، وكذلك فعل العرب طبعاً. كان خطاب الرئيس الأميركي، جورج بوش الابن، في 19/3/2002، والذي أعلن فيه أن الشعب الفلسطيني «يستحق قيادة أفضل من القيادة الحالية»، الإيذان الحقيقي بالبدء بتجريد عرفات من صلاحياته؛ إذ بعد الخطاب بتسعة أشهر فقط، نجح اللوبي الأميركي - الإسرائيلي في إحداث تغيير بـ«الإكراه» في النظام السياسي الفلسطيني، باستحداث منصب رئيس وزراء صُمّم خصّيصاً لمحمود عباس. قبل ذلك، كان الأخير، وفقاً لشهادة قريع، «في أغلب لقاءاته الديبلوماسية والسياسية، يلمّح إلى دور أبو عمار في إفشال جهود السلام (...) بهدف رفع الغطاء عن أبو عمار وتشويه صورته أمام المجتمع الدولي، وأنا شاهد على عدد من اللقاءات التي عقدها أبو مازن مع الرباعية والأميركان، وهم كانوا يستمعون له، أبو مازن هو مَن أوصل أبو عمار إلى هذه المرحلة».
لم يكن الاغتيال المعنوي الذي تعرّض له «الختيار» مستنداً إلى الهَباء


المرحلة الأولى التي سبقت التصفية الجسدية كانت تهدف إلى تجاوز أبو عمار، وتحويله وفقاً لعدد كبير مِن شهادات مَن عايشوا تلك المرحلة، إلى «رئيس شرفي من دون صلاحيات». آنذاك، تُرك الراحل ضحيّة الحصارات المتكرّرة، ولم يَرفع أيّ زعيم عربي سمّاعة الهاتف للاطمئنان عليه، وفق ما يقول الحاج إسماعيل جبر، فيما يضيف المستشار الاقتصادي السابق لعرفات، محمد رشيد، في شهادته، أن عباس لم يَقبل الدخول على خطّ الوساطة مع إسرائيل لرفع الحصار عن عرفات، إذ ردّ على جهود مَن حاولوا إقناعه بذلك بالقول: «اللي طلّع الحمار على المأذنة ينزله (...) مَن يعطي النقود لمن يطخطخوا يحلّ مشكلته لوحده وليس شأني». لقد كان كرسي الرئيس مهيّئاً لعباس. لم يقبل شارون بـ«الأولاد» الذين يجلبهم للجلوس معه محمد دحلان، للبحث عن بديل. طلب «أصحاب الفكر السياسي»، ثمّ أعلن صراحة أنه يريد عباس. يقول رشيد، ويتابع: «قال شارون أنا أريد محمود عباس، وأنا مختلف في ذلك مع بيرس (...) قال شارون إنه يقبل أن يكون عرفات رئيساً للأبد، لكن من دون صلاحيات، وأن ينقل كافة صلاحياته إلى رئيس وزراء نستطيع أن نثق به، ونستطيع التعامل معه في الأمن والسياسة والمفاوضات».
من وُجهة نظر كلّ الشهود الذين أدلوا بإفاداتهم، كان قبول عرفات باستقالة حكومة أبو مازن، هو الفيصل الذي وضع خيار التصفية الجسدية على الطاولة. «تقولون أني كرزاي فلسطين... أنا سأستقيل»، قالها عباس، مقدّماً استقالته في أيلول 2003، فيما عرف كثيرون من المحيطين بعرفات أن قبول الأخير الاستقالة يعني التوقيع على شهادة وفاته، لأنه بذلك يُفشل الخطّة الأميركية الإسرائيلية لتهميشه، أي الخطّة «ب»، ولا يُبقي أمام أعدائه سوى الخطّة «أ»، وهو ما كان.