غزة | مع دخول الحصار على غزة عامه السابع عشر، تستمرّ معاناة أبناء القطاع من تداعيات هذا الحصار، الذي حوّل حياتهم إلى حالة ضغط مستمرّة، يَصعب معها إيجاد نافذة للخروج، إلّا نحو البحر الذي أغرق العشرات من الغزّيين أثناء رحلة بحثهم عن مصير آخر. وإذ لا تزال إسرائيل ماضية في تطبيق سياسة «الرأس فوق الماء»، وآخر تجلّياتها حظْر تصدير الأسماك من غزة إلى الضفة الغربية بعد السماح به في أيلول الماضي، يُواصل أهالي غزة مُحاولاتهم التكيّف مع العقوبات المفروضة عليهم، متمسّكين في الوقت نفسه بمقاومتهم وسلاحها الذي يدركون أنه بات وسيلتهم الوحيدة لاستعادة شيء من الحقوق الوطنية
على مدار 16 عاماً من الحصار، عانى الفلسطينيون في قطاع غزة من عقوبات أثّرت على مختلف نواحي حياتهم، سواء في الجانب الاقتصادي أو الصحّي أو الاجتماعي، وحتى في حرية التنقّل والسفر، إلى درجة أضحى القطاع يُوصف معها بأنه «سجن كبير» للفلسطينيين الذين قرّروا أن يقفوا في صفّ المقاومة، فيما يرى الاقتصاديون أن الاحتلال يطبّق بشكل مدروس سياسة «الرأس فوق الماء» تجاه الغزّيين، ويضع سقفاً لدورتهم الاقتصادية. وباتت نسبة البطالة في غزة هي الأعلى في العالم (71% في أوساط الشباب)، بينما يقبع أكثر من 60% من أهل القطاع تحت خطّ الفقر، وهو الأمر الذي انعكس سلباً على الحالة الاجتماعية للكثيرين منهم؛ إذ بلغ عدد الشبان الذين هاجروا تجاه الدول الأوروبية قرابة 60 ألفاً قضى العشرات منهم نَحبه في الطريق، بعدما حوّلت السلطات الإسرائيلية حياتهم إلى حالة ضغط متواصل، يَصعب عليهم معها تأسيس حياتهم في هذه البقعة. ومن هنا أيضاً، أمسى آلاف الشباب غير قادرين على الزواج، ليُسجَّل ارتفاع مطّرد في سنّ الزواج، وكذلك ارتفاع في نِسب الطلاق التي وصلت إلى 20.7% من إجمالي عدد الزيجات في عام 2021.

اقتصاد بسقف محدَّد
أضحى اقتصاد غزة، منذ بداية الحصار، قائماً على الاستيراد وما يصل إلى القطاع من مساعدات؛ فقد أُغلقت أكثر من 80% من المصانع، بينما تُقتطع الضرائب على الواردات من قِبَل سلطات الاحتلال من خلال معبر كرم أبو سالم - المعبر التجاري الرئيس لغزة -، وتُسلَّم للسلطة الفلسطينية في رام الله، من دون أن تعود بالنفع على الغزّيين، وهو الأمر الذي خلق فجوة كبيرة في الاقتصاد. ويرى اقتصاديون أن دولة الاحتلال، من خلال تَحكّمها بما يَدخل ويَخرج من بضائع، تضع سقفاً للدورة الاقتصادية في القطاع، في تطبيق عملي لسياسة «إبقاء الرأس فوق الماء»، بحيث لا تغرق غزة وتنفجر في وجه العدو، ولا تتمتّع في الوقت نفسه برخاء اقتصادي تستفيد منه مقاومتها. وتسمح السلطات الإسرائيلية يومياً بمرور عدد معيّن من الشاحنات، فيما تفرض قيوداً على الصادرات إلى الضفة، وهو ما تجلّت آخر حلقاته في منْع تصدير السمك الذي يتمّ اصطياده من بحر القطاع.
أضحى اقتصاد غزة، منذ بداية الحصار، قائماً على الاستيراد وما يصل إلى القطاع من مساعدات


التأثيرات النفسية
بعد 16 عاماً من الحصار، كشفت معطيات فلسطينية عن تأثيرات نفسية سلبية كبيرة على المواطنين، إذ إن 61% من أطفال غزة يعانون اضطرابات نفسية كالخوف والقلق، في حين تشير الدراسات إلى أن 51% من الأطفال لم تَعُد لديهم الرغبة في المشاركة في أيّ نشاطات، وأن 47% منهم لم يعودوا قادرين على أداء الواجبات المدرسية، و48% يعانون سوء التغذية. وبينما يفيد تقرير صادر أخيراً عن «مجلس العلاقات الدولية» بأن معظم الفلسطينيين مصابون بالصدمة والتوتّر ومشاكل نفسية أخرى، تُقدّر «منظّمة الصحة العالمية» أن 360 ألف شخص (20% من سكّان القطاع) يواجهون تحدّيات الصحّة العقلية بسبب الحصار.

صعوبة السفر
لا يُسمح لأكثر من 500 مسافر بمغادرة القطاع يومياً عبر معبر رفح، المنفذ الخارجي الوحيد لغزة، بما في ذلك الحالات المَرضية التي لا يتوفّر لها علاج، فيما يجد المغتربون الفلسطينيون صعوبة في العودة، بالنظر إلى تعقيدات الخروج، إذ إن بعضهم يحتاج إلى أشهر حتى يُسمح له بالخروج من بين دوْر طويل من أصحاب حاجة السفر، وإنْ أراد تعجيل دوْره، فلا سبيل أمامه سوى دفْع رشاوى فَرضها النظام المصري تحت مسمى «تنسيقات». وعلى رغم أن الفلسطينيين حاولوا مئات المرّات ابتداع خطوات تُمكّنهم من تجاوُز آثار الحصار، إلا أنها جوبهت بإجراءات صارمة من قِبَل الاحتلال والسلطة الفلسطينية والمصريين، وكلّها أطراف مُجمِعة على ضرورة استمرار معاقبة الغزّيين، بسبب تمسّكهم بخيار المقاومة. مع ذلك، لا يزال هؤلاء ملتفّين حول مقاومتهم، بوصْفها الخيار الوحيد الممكن لاستعادة الحقوق الوطنية الفلسطينية.