رعد خازم... ذاك الذي ضجّت بصمته الآفاق

«اللهم ليلةً كليلة رعد»؛ طوال الأشهر التي أعقبت عمليّته في شارع ديزنغوف وسط مدينة تل أبيب، لهِج بذلك الدعاء الآلافُ ممَّن احتفظوا ببهيج صنيعه في دواخلهم. حين تَحنق النفوس بالغيظ عقب كلّ جريمة اغتيال، يَحضر طيف ابن الـ29 ربيعاً، شابّاً أنيق المظهر، يقف في مقابل شارع يزدحم بالمقاهي والمحالّ التجارية، يُشهر في تمام الساعة التاسعة من مساء يوم الخميس 7/4/2022 سلاحه، آذناً لعقارب التاريخ بأن تُسجّل وقائع انتقامه. مهندس الحاسوب المبدع، الذي يلقّبه أهل مخيم جنين بـ«السايبر»، وُلد في عائلة صَنعت الشهادةُ والتضحية سيرتها. والده هو فتحي خازم، أحد أبرز مطارَدي الانتفاضة الأولى، والذي سيغدو بعد استشهاد نجله أباً روحياً للمقاومين. أمّا خالاه، فهما عثمان السعدي (أبو العواصف)، أحد شهداء الثورة الفلسطينية في لبنان؛ ومحمد السعدي، قائد منظّمة «الفهد الأسود»، الذي كان قد قضى في اشتباك مسلّح في جنين مطلع التسعينيات؛ وزوج خالته هو القائد في حركة «الجهاد الإسلامي»، الشيخ بسام السعدي، الذي أمضى حياته متنقّلاً بين سجون الاحتلال.
يصفه مَن عرفه بحدّة الذكاء، والعبقرية في مجال شبكات الإنترنت وهندسة الحاسوب. شخصيّته وادعة مسالمة، لكنه «غامض، حيث لم يَجد أحد من جيرانه تفسيراً لصمته الدائم». يحقّ القول إن رعد أفرغَ، برفقة شقيقة الشهيد عبد الرحمن، قدْراً وافراً من مخزون ما يمكن أن يقولاه بلسانَيهما، في صنيعهما البطولي في «ديزنغوف»، والذي أدّى إلى مقتل ثلاثة إسرائيليين، تَبيّن لاحقاً أن اثنين منهم خدما في شعبة الاستخبارات العسكرية في جيش الاحتلال، فضلاً عن إصابة 15 آخرين. عملية شكّلت فاتحة عصر جديد، وألهبت حماسة الآلاف من أشباههما. بعدما استنفد ما لديه من رصاصات، استنفر انسحابُه المدروس من مسرح العملية، نحو 1000 جندي إسرائيلي للبحث عنه بين شوارع تل أبيب ويافا. في أحد مساجد المدينة العروس، صلّى فجر الجمعة الأولى من رمضان، رافضاً تسليم نفسه، ومعيداً كَرّة الاشتباك بما تبقّى لديه من رصاصات. قُتل رعد الصامت دائماً، تاركاً لفلسطين كلّها أن تزهو بضجيج الفعل العظيم.

عديّ... وما أدْراكَ ما عديّ؟


قُبالة حاجز «معاليه أدوميم»، سَجّل عدي التميمي ظهوره التاريخي الأخير. ما قاله محمود درويش مجازاً: «اضرب عدوّك بي»، طبّقه ابن مخيم شعفاط واقعاً. يَفتح جنديان مخازن الرصاص تجاه جسده، فسيتمرّ هو في إطلاق النار. تخترق الطلقات قدمَيه، فيواصل الاشتباك، قافزاً في الهواء ومحاولاً استراق مزيد من الثواني، قبل أن يَسقط ويتابع إطلاق الرصاص حتى النفَس الأخير والأثير. ستَكتب تفاصيل تلك الثواني سيرة المطارَد المشتبِك بمِداد الخلود. ابن الأعوام الـ23 كان قد نفّذ عمليّته الأولى على حاجز شعفاط في مساء 8/10/2022، حيث وثّقته كاميرات المراقبة أيضاً، يَخرج من سيارة أجرة بكلّ هدوء وثقة، ثم يُطلق الرصاص على رؤوس الجنود والجنديّات، فيَقتل إحداهنّ، قبل أن يلوذ منسحِباً. طوال أحد عشر يوماً من البحث والمطاردة، تحوَّل الشاب الأيقونة إلى ظاهرة ملهِمة؛ إذ حَلق المئات من شباب مخيّمه أوّلاً رؤوسهم كي يعقّدوا عمليات البحث عنه، ثمّ أضحى «كاركتير» شخصيته أيقونة يتمثّل بها الشبّان حتى خارج فلسطين.
«شابّ متأنّق دوماً، يفيض بالقوّة والإيمان. رياضي من الطراز الأوّل، يمارس لعبة كمال الأجسام. يعشق الأطفال، ويُكثر مشاكستهم، شهم وصاحب نخوة». بتلك الأوصاف تحدّث عنه جيرانه، وبأكثر من ذلك حيّاه الجميع، صحافيون وقادة فصائل، مقاومون وسياسيون، استطاع الشابّ «الأقرع» أن يحتلّ نبض قلوبهم. في وصيّته، أدرك عديّ أن عمليته هي «نقطة في بحر النضال الهادر»، وعَلم أيضاً أنه سيستشهد «عاجلاً أم آجلاً»، و«(أنّني) لم أحرّر فلسطين بالعملية، ولكن نفّذتُها واضعاً هدفاً أساسياً»، هو أن «يَحمل مئات من الشباب البندقية مِن بَعدي». قضى عديّ محقّقاً الهدف الذي أراد، ليسجّل العام الذي نُوقّعه باسمه وبأسماء رفاقه الفدائيين، أكبر حضور لعمليات المقاومة وشهدائها منذ 15 عاماً. لقد افتَتح التميمي عصر «الجيل الفلسطيني» الجديد، الذي يعي تماماً أنه «الآن حرّ وحرّ وحرّ».

إبراهيم النابلسي... عبق الورد والبارودة


لن يهرب «صاحب الأرواح التسع» هذه المرّة. أدرك، في صباح ذلك اليوم، أنه في الساعات الأخيرة من حياته؛ إذ لا يكفي ما بحوزته من رصاص لمجابهة نحو 500 جندي من جيش الاحتلال، اقتحموا البلدة القديمة في نابلس لتصفيته. «أمّي، أنا إبراهيم... أنا استشهدت»، كانت تلك آخر الكلمات التي حكاها لوالدته. تقول أم إياد، في حديثها إلى «الأخبار»: «قلتُ له بلهفة، رح تهرب منهم يا حبيبي، مثل كلّ مرة يا إبراهيم، ردّ قال أنا بحبك، أنا استشهدت يا أمي». ابن الـ24 ربيعاً كان قد سجّل اسمه في قوائم المطلوبين مبكراً، حيث شارك في السادسة عشرة من عمره، مع رفاقه محمد الدخيل وأدهم مبروكة وأشرف مبسلط، في زرْع عبوة ناسفة قرب موقع لجيش الاحتلال على جبل جرزيم. وخلال سنوات من النشاط المقاوِم، أسّس مع نفر قليل من أصدقائه، ما عُرف لاحقاً بـ«خلية نابلس»، التي ستغدو بعد رحيله مجموعات كبيرة بمسمّيات عدّة، يتسابق المئات من الشبّان للانضمام إلى صفوفها، وتتصدّر مشهد الاشتباك بتنفيذ العشرات من عمليات إطلاق النار.
«يحبّه الكبار والصغار»، أمّا هو فـ«متيّمٌ بالصغار على وجه الخصوص»، تقول والدته، وتُواصل: «كان بهجة البيت، بريء ومتواضع، طيّب وعذب الخلق، يترك خلفه عبق الورد أينما حلّ». يروي عن بساطته وعزّة نفسه أيضاً، أبو جمال، شقيق صديقه الشهيد أدهم مبروكة: «كان إبراهيم ورفاقه الثلاثة يعملون يوماً أو يومَين في الأسبوع برفقتي في مجال الديكور والجبص كي يؤمّنوا مصروفهم الشخصي، أربعة شبّان يأكلون من وجبة واحدة، يتقاسمون باكيت سجائر واحد، كي لا يطلبوا من أحد حاجتهم». في أحد أعياد الأم، أهدى «أبو فتحي» والدته خاتم فضة، كان قد اشتراه من مصر «أون لاين» منقوشاً عليه: «لا تحزن إنه حيّ». تستذكر أم إياد، وهي أمّ لثلاثة أبناء وابنة، يعتقل الاحتلال نجلها الأكبر إياد إلى اليوم، تلك اللَفتات بالقول: «إبراهيم كان يهيّئني دائماً للحظة استشهاده، وحين كنت أحاول إقناعه بأن يلتفت إلى حياته ومستقبله، كانت طريقته البسيطة في الإقناع لا تُبقي لديّ ما يمكن قوله».
بعد أن كثّف الاحتلال من مطاردته، وظهر «البطل» مودّعاً رفاقه واحداً تلو الآخر، أجمعت على حبّه القلوب، وتَحقّق ما كان يتمنّاه من أن «يرى الناس صورة المقاوم الحقيقي». قضى «المطارَد الأوّل» في 9/8/2022، بعد حصار استمرّ أربع ساعات في حارة الحبلة في البلدة القديمة في نابلس، تاركاً رسالته المسجَّلة وصيّة لعشرات المقاومين مِن خَلفه: «أنا بحب أمي، حافظوا على الوطن من بَعدي، بوصّيكم ما حد يترك البارودة».

أدهم مبروكة... لم يستوحش طريق الحق


تجتمع في مسيرة الشهيد أدهم مبروكة، الشهير بـ«الشيشاني»، أبلغُ معاني التضحية والاغتراب. وحيداً بدأ الدرب برفقة أصدقائه الشهداء إبراهيم النابلسي وأشرف مبسلط ومحمد الدخيل، ووحيداً تحمّل أكلاف المواجهة مع الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة من جهة، وملاحقة جيش الاحتلال من جهة أخرى. يقول شقيقه الأكبر أبو جمال في حديثه إلى «الأخبار»: «أدهم صديقي الحميم، إنسان عصامي جداً، عزيز النفس، اعتُقل مرات عدّة في سجون السلطة، أطولُ تلك الاعتقالات تجاوزت مدّته العامين ونصف العام، خرج من السجن وقد خُلع كتفه من التعذيب والشبح». الطريق الذي بدأه «الشيشاني» برفقة «خلية نابلس»، تحمّل أعباءه المادّية من كدّه وعرق جبينه؛ إذ إنه وعلى رغم إصابته البالغة، كان يجتهد في العمل مع شقيقه في مجال التشطيب والديكور والبناء، ليؤمّن مصاريف المطاردة. «اشترى بندقيّته من عَرق جبينه»، يقول شقيقه، ويتابع: «بعد استشهاده، اجتهدنا في البحث عن مَن لديه حق أو دَين مادي في عنقه، اكتشفنا أنه مَدين بأكثر من ألفي دولار هي ما تبقّى من ثمن بندقيته».
تأثَّر «الشيشاني»، في أدبيات المقاومة و«الاتّصال الإلهي»، بكلٍّ من الشهيدَين جمال الكيال وجميل العموري. عايش إحساس التعلّق بسيرتهما، وكتب عن ذلك في صفحته على «فايسبوك»: «إذا تعلّقتَ بشهيد ما، فاعلم أن هذا الشهيد اختارك لتُكمل مسيرته، لذلك كُن فكرة». تصفه والدته التي رفعت إشارة النصر أمام الآلاف من مشيّعيه، بالقول: «كان حنوناً يحبّ الخير والناس، عنيداً في خياراته، لم يلتفت إلى تهديدات ضابط المخابرات الإسرائيلي المستمرّة، رَفض تسليم نفسه، وآثر أن يمضي في طريقه حتى الشهادة». يكمل شقيقه الأكبر أبو جمال: «كان خجولاً وحسّاساً، يستحي من أن يحمل سلاحه أمام سكّان الحي، كي لا يكون هذا السلاح مَدعاة للتظاهر والاستعراض، يُرسل من يشتري له أغراضه حتى يتجنّب إصرار أصحاب المتاجر على أن لا يأخذوا منه الأموال بدافع الكرم والحب».
تَكشف تفاصيل عملية اغتياله ورفاقه في 8/2/2022، قدْر الغيظ الذي اعتمل لدى المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية من نشاطاته، حيث أطلقت قوّة «اليمام» الإسرائيلية الخاصة النار عليه مِن مسافة صفر، برفقة صديقَيه الدخيل ومبسلط. في مراسم التشييع المهيبة، هتف الآلاف من مشيّعيه: «ارفع إيديك وعلّيي... الموت ولا المذلة»، قبل أن يقرّر المئات أن يواصلوا الطريق التي يرفضون بها المذلّة.

تامر الكيلاني... الطلقة المنفردة


لم تفلح كلّ محاولات ذوي الشهيد تامر الكيلاني في إقناعه بأن يترك الطريق الذي «اختاره بكلّ قناعة وإيمان». «الخبّاز وصانع الحلويات المبدع»، الذي قضى نحو ثُلث سنيّ حياته في سجون الاحتلال، كان مسكوناً بالمقاومة منذ صِباه. يَذكر أحد رفاقه أن استشهاد القيادي في كتائب الشهيد أبو علي مصطفى، يامن فرج، عام 2004، كان له الأثر الأبلغ في حياته؛ إذ عُرف بكنية «أبو يامن»، وهو لم يتجاوز الـ14 عاماً. بين الـ13 والـ20 من عمره، أصيب ثلاث مرّات في مواجهات مع العدو، آخرها كانت الأكثر حرجاً، حيث نجا فيها من الموت بأعجوبة. كما اعتُقل ابن الـ33 ربيعاً عدّة مرات في سجون الاحتلال، ليقضي وفق ما قاله والده سفيان، ما مجموعه تسعة أعوام من عُمره خلف القضبان. قبل نحو ثلاثة أعوام من استشهاده، وفي الأشهر الأخيرة من سجنه الأخير، ارتبط برفيقة عمره شيماء، وأنجب منها بعد زواج استمرّ عامَين طفله البكر يامن، ثمّ طفلته وتين. تقول أم يامن في حديثها إلى «الأخبار»: «في بداية المطاردة، جلس معي وخيّرني بين أن نستمرّ في زواجنا، أو أتركه وأبحث عن مستقبلي في حياة أكثر استقراراً (...) أنا أخت لشهيد وأسير محرَّر، كان ردّي وأنا أرى أن الشهادة هي مصيره، أنّني سأبقى معه إلى النهاية».
خلال أشهر المطاردة الساخنة، نشط في تأسيس مجموعات «عرين الأسود» مع الشهيدَين وديع الحوح ومحمد العزيزي، ونفّذ العديد من عمليات إطلاق النار، كما خطّط لتنفيذ عمليات تفجيرية أخرى في مدن العمق. أدرك المقاوم الشابّ مبكراً أنه على موعدٍ مع الشهادة. تقول زوجته: «كان محبّاً لأولاده ولزوجته، ومحبّاً للحياة أيضاً، لكنه كان يردّد لي دائماً أن الله أحنّ منا علينا، زرع فينا حبّ فلسطين وحبّ الله عزّ وجلّ، إلى الحدّ الذي أصبحنا فيه نحبّ ما يفعل رغم خوفنا عليه». «قنّاص لا تَخيب له طلقة»، يقول أحد رفاقه في «الجبهة الشعبية»، لافتاً إلى أن تامر احترف القنص، وكان يوصي رفاقه بأن يحفظوا رصاصهم، وأن لا يهدروه في العشوائية والاستعراض. خلال الاجتياحات، كان رفاقه المقاتلون يميّزون صوت طلَقاته من بين كثافة الأزيز: «طلَقات منفردة، ندرك أن كلّ واحدة منها عرفت طريقها بدقّة إلى أحد الجنود»، يضيف رفيقه.
تستذكر زوجته أيامه الأخيرة، حين احتفل بعيد ميلاده قبل استشهاده بأيّام معدودة: «زرتُه في البلدة القديمة، وكان تامر يغيب عنّا طويلاً، أمسك ابنه يامن الذي لم يتجاوز العامين، وصار يحدّثه، إيّاك يا بابا تتوهّم يوماً أني متت ببلاش، أنا سأرحل لأجل مستقبلك». تُواصل: «قبل استشهاده بدقائق كان يتحدّث معنا في مكالمة مصوَّرة، وطلب منّا أن نسامحه، ثمّ بعد خمس دقائق من انتهاء المكالمة، انفجرت به درّاجة نارية مفخّخة كانت مركونة في حي العطعوط في البلدة القديمة في نابلس». مضى تاركاً فينا وفي محبّيه وصاياه التي أضحت واقعاً: «الطريق إلى الأقصى... تُعبّده البندقية».

جميل العموري... قاتل عدوّك لا مفرّ


كان من المفاجئ لأمّ جميل العموري أن تدرك أن ولدها ذا الوجه الطفولي البريء، هو القائد الملهم الذي سيُنسب إليه فيما بعد، تجديد حالة الاشتباك، بعد نحو 15 عاماً من القضاء على البٌنى التحتية لفصائل المقاومة في الضفة الغربية المحتلّة بشكل شبه كلّي. ابن الـ25 ربيعاً، الذي لمع اسمه في مخيم جنين، اضطرّ لترك الدراسة مبكراً ليعيل أسرته المكوَّنة من سبعة أشخاص. تقول أم جميل، في حديثها إلى «الأخبار»: «اشترينا سيّارة أجرة ليعمل عليها، كان مكافحاً وعصامياً، يدّخر ما يستطيع، وفي أحد الأيام، دخل بيتنا وقد باع السيارة واشترى بثمنها بارودة (...) حاولت أن أقنعه بالزواج من دون جدوى». يلفت أحد عناصر «كتيبة جنين» التي سيرتبط تأسيسها باستشهاد العموري، إلى أن «الله مَنح جميل قدرة هائلة على التأثير في مَن حوله، وإمكانات قيادية لافتة. هو بخلاف مَن اشتبكوا بشكل فردي مع الاحتلال، بدأ بتأسيس خلايا المقاومة، ووجّه ببساطته وأسلوبه العذب، الشباب في مخيم جنين ونابلس إلى استثمار الإمكانات المحدودة، لصناعة حالة عسكرية مستدامة». أمّا عن فلسفة الاشتباك لديه، فهي: «قاتل عدوك كأنك في حلبة مصارعة رومانية، باغتْه وجهاً لوجه لتشلّ حسابات المنطق وردّة الفعل المدروسة لديه، ثمّ اختفِ»، بحسب ما يوضح رفيقه الشهيد محمد السعدي في مقابلة سابقة.
بين جنين ونابلس تنقّل العموري، تاركاً أثره في جيل جديد من الشبّان الذين سيغدون في نهاية الـ2022 التحدّي الأكبر للمنظومة الأمنية الإسرائيلية. تقول والدته: «إلى اليوم، رغم فخري الكبير به وأنا أراه في عيون المئات من رفاقه الذين يزورونني دائماً، أحاول بصعوبة إقناع نفسي بأن ذلك الشابّ الجميل البريء، هو مَن أسّس حالة المقاومة الكبيرة». لمع نجم العموري بعد تنفيذه عدّة عمليات إطلاق نار، كانت باكورتها في كانون الثاني 2020، حيث أطلق النار باتّجاه جنود الاحتلال بينما كانوا يهدمون للمرّة الثانية منزلَ الأسير أحمد القنبع في مدينة جنين، واستمرّ بعد ذلك في تنفيذ عمليات إطلاق نارٍ على الحواجز وخلال التصدّي لاقتحام المخيم. ثمّ تطلّب الأمر من الشبح المختفي أن يَظهر علناً، فكان ظهوره الأوّل في كلمة ألقاها في المخيّم خلال معركة «سيف القدس». قال العموري منظّراً لمنهجه المقاوم: «شبابنا الذين تحملون السلاح في الضفّة، لا تُطلِقوا رصاصكم في الهواء، إنّ هذا السلاح أمانة في أعناقكم، وواجب ديني وشرعي أن يتوجّه إلى الاحتلال».
قضى «مجدِّد الاشتباك» كما يلقّبه رفاقه في 10 حزيران 2021، بعملية اغتيال نفّذتها «وحدة اليمام» الخاصة في جيش الاحتلال، فيما لا يزال جيش العدو يحتجز جثمانه إلى اليوم. تقول أم جميل: «أرْعبهم جميل حيّاً، وأرادوا أن يُخمدوا ذكره شهيداً، لذلك احتجزوا جثمانه، لكنهم تفاجؤوا بالمئات من أشباهه».

عبود صبح... مَن اشترتْه الحياة وباعها


«إذا يوم بتصحي بيقولولك عبود مات شو بتعملي؟»، كانت تلك الكلمات، هي نصّ رسالة صوتية بعثها الشهيد عبد الرحمن صبح إلى خطيبته ميرا. في ذلك الصباح، لم تكن الفتاة العشرينية تعلم أن الفارق بين نبوءة حبيبها والرحيل هي شهر ونصف شهر فقط. حينها، تجاهلت ما حكاه إليها قدَرها والشعور، إذ لا أحد يَقبل على نفسه التفكير في لحظة فراق أعزّ مَن يحب، لكن في النهاية قضى بطل «عرين الأسود». في صباح الرحيل، «وحده الله هو مَن ربط على قلبي»، تقول ميرا لـ«الأخبار» وهي تصف الأشهر التي عايشتها منذ رحيله في 24/7/2022، مضيفةً: «شعور هائل بالفقد»، لكن لا شيء تَغيّر، فهي لا تزال تحتفظ بتفاصيل الأشهر السبعة التي عايشتها برفقته، فقد كان «رجلاً حقيقياً، وسنداً بكلّ ما تحمل الكلمة من معنى».
أجمعت على حبّ «خيال البلدة القديمة» القلوب، فهو الشاب الشهم الذي عايش حياة اليسر المادي والنجاح الاجتماعي بأعلى مراتبه. يقول شقيقه سائر: «كان لديه حصان يحبّه كثيراً اسمه الأدهم، الحياة كانت فاتحة يديها لعبود، لكنه لم يكن مشترياً للحياة، كان قد اشترى الآخرة، أنا رأيته شهيداً قبل أن يرحل بأربعة أشهر». نقطة التحوّل في حياته، وفق خطيبته «أم آدم» كما كان يحبّ أن يناديها، بدأت في شهر رمضان الماضي. حينها، كثرت الأيام التي يغيب فيها عن المنزل، وكثر حديثه عن الشهادة، وكان قد انخرط برفقة صديقه الشهيد محمد العزيزي في تأسيس مجموعات «عرين الأسود». وفي منتصف تموز الماضي، وعقب ليلة قضاها العروسان في انتقاء «عفش» البيت، تفاجأت خطيبته صباح اليوم التالي بأنه ذهب إلى المحكمة ليُتمّ إجراءات الانفصال عنها، إذ إنه أصبح مطلوباً ينتظر حتفه في أيّ لحظة. تقول: «بعث لي برسالة كتب فيها: سامحيني، وكتاب الله ما حبّيت بنت قد ما أحببتك، اعملت هيك حتى ما أظلمك، سامحيني بعد استشهادي وما تدعي علية». رفضت ميرا وعائلتها فصْل الخطوبة، وردّت بالقول: «معك ع الموت»، الذي لم يتأخّر كثيراً، عندما قضى عبود ورفيقه العزيزي في اشتباكات مع قوات الاحتلال في البلدة القديمة في نابلس.

فاروق سلامة... أرقُّ مَن حَمل السلاح


تحوّلت مراسم فرح العريس فاروق سلامة، القيادي في «كتيبة جنين»، إلى حزنٍ عمّ البلاد بأكملها. ففي مطلع تشرين الثاني الماضي، استغلّت وحدة «اليمام» الخاصة في الجيش الإسرائيلي، انشغاله ورفاقه بتجهيز ذبيحة وليمة الفرح، واقتحمت المسلخ حيث يتواجد، وباغتتْه بصليات من الرصاص. لم تكن ثمّة فرصة أفضل من تلك للنيل منه؛ فقد عايشته المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية عن قرب، هو الذي تجاوزت سنوات اعتقاله المتفرّقة منذ كان طفلاً لم يتخطّى الـ15 عاماً، نحو ستّ سنوات. «عنيد وجريء ولا يخشى الموت»، تقول والدته أم فادي سلامة في حديثها إلى «الأخبار» وهي تستذكر المرّة الأولى لاعتقاله، مضيفةً: «كان شبلاً عمره 15 عاماً، حينما كان يشارك في رشق جنود الاحتلال بالحجارة على حاجز الجلمة القريب من مخيم جنين، أمسك به أحد الجنود، ولَطمه على خدّه، لم يَهرب، إنّما اقترب من غريمه الجندي، وبَصق في وجهه وحاول رد ضربته، ليُعتقل إثر فعلته تلك ويقضي عامين في السجن».
حين اغتيل، لم يكن قد مضى على خروجه من السجن سوى أحد عشر شهراً. خلال تلك المدّة، لم ينجح فاروق في تنظيم صفوف «كتيبة جنين» فحسب، إنّما ساهم على نحو فاعل في بناء خلايا المقاومة في طولكرم وفي نابلس، واجتهد في دعم وتنظيم «كتيبة نابلس» ومجموعات «عرين الأسود». تقول أم فادي: «كنتُ أَعلم أنه ناشط في المقاومة، لكنّني لم أعرف أنه قائد بهذا الحجم إلّا بعد استشهاده، كان يُشعرني دائماً أنه شابّ عادي لا يقوم بأكثر ممّا يفعله عامّة الشباب في المخيم». أمّا عن زواجه الذي قَبِل به الشهيد كي لا يُخالف ما اشتهته له والدته، فتقول: «حاولتُ بفهمي الطيب أن أشتريه وأن أشغله عن هذا الطريق، في النهاية أنا أمّ (...) لم أشبع منه، قضى حياته بين الأَسر والمطاردة، قَبِل الزواج لأجلي، وعاش الفرح وعشتُه معه».
مقتنيات الشهيد فاروق سلامة

عاش «عريس فلسطين» في عائلة مناضلة. اعتُقل والده وإخوته مراراً، وجَمع السجن بينه وبين أبيه. آخر الأبناء المعتقَلين كان إيهاب، الذي ساهم في تأمين أسيرَي «نفق الحرية» أيهم كممجي ومناضل انفيعات، وأُفرج عنه قبل أسبوع من زفاف أخيه، ليُعاد اعتقاله يوم اغتيال فاروق مجدّداً. يقول أحد رفاقه في «كتيبة جنين»، إن فاروق، وعلى رغم ما كان يبديه من صلابة ورجولة، إلّا أنه «أرقُّ مَن حَمل السلاح»، لم يترك محتاجاً من دون مساعدة، ولم يمضِ يومٌ من دون أن يَطلب منّا أن نسامحه».

متين ضبايا... يا سعدَ من نال الشهادة مخلصاً

الشهيدان متين ضبايا (يمين) وعبد الله الحصري (يسار)

يُشعركَ النُطق باسمه، بقدْر البأس الذي تَحمله شخصيته. هو متين ضبايا، أحد قادة «كتيبة جنين»، ورفيق البدايات إلى جانب الشهداء جميل العموري وعبد الله الحصري وداوود الزبيدي. يَحفظ أهالي المخيم الدروب التي سلكها خلال عامَين ونصف عام من المطاردة. تشهد على ابن الـ25 ربيعاً الأزقّة والجدران، وعشرات المواجهات التي لمع فيها نجمه متقدّماً الصفوف، مقاتلاً على الطريقة التي تَوافق عليها مع رفيقه العموري: «كن قريباً من عدوك، تصبح أقوى». تقوم هذه الفلسفة العسكرية المبتدَعة على ضرورة تقليص المسافة بين المشبِك وخصمه، لأن اتّساع الفارق المكاني يعطي العدو امتياز استخدام وسائل القتال المتطوّرة، ما يسمح له بتوظيف أسلحة القنص والتتبّع وكثافة النار، أمّا حين تُباغته من مسافة صفر، فإنك ستتفوّق عليه بإمكانات شجاعتك الذاتية، في مقابل ضعفه وارتباكه، فيُضحي السلاح الذي في يديه بلا قيمة. «مَن صَدَق العزم وجدّ السبيل، يا سعدَ من نال الشهادة مخلصاً»؛ بهذه العبارة عَنوَن «مشتبِك المخيم» حسابه في «فايسبوك»، وقد سعى بعد خروجه من السجن إلى مقصده من دون تردّد. يقول شقيقه إسلام في حديثه إلى «الأخبار»: «في حياته، كان من أبسط الناس، عمل في تجارة الخضار، كسب رزقه من كدّه وتعبه، وحين استحالت الحياة العادية بعد المطاردة، عاش زاهداً فقيراً غير مكترث لزخارف الدنيا».
«مكافح وحنون، وقريب من إخوته الخمسة»، يتابع إسلام حديثه، لافتاً إلى أن متين «انخرط في طريق المقاومة من دون أن يفصح لعائلته عمّا يخطّط له، هو غامض للغاية، ثمّ أصبح في خطّ الدفاع الأول في كافة الاجتياحات». في 14 تشرين الأول 2022، تَقدّم صفوف المقاومين كعادته في التصدّي لقوات الاحتلال التي داهمت المخيم، وبعد ساعات من الاشتباك في واحد من أعنف الاجتياحات وأوسعها، باغتتْه طلقة قنّاص، وقضى إلى جانب الشهيد عبد الله أبو تين. أمام جثمانه، وقفت والدته، وقالت بعد أن باركت لابنها شهادته التي تمنّاها: «كان ابني يردّد دوماً، لا أريد أن أموت هكذا، كان يرى الموت العادي مخجلاً، كان يتمنّى أن يموت شهيداً، ولأنه تمنّى ذلك، أنا سعيدة لأجله وقد استشهد مع أصحابه، إخوته الذين تمنّى الموت إلى جانبهم».

محمد الدخيل... مَن أطاع حسّه وفاز


لم تكن ثمّة فرصة لنهاية أخرى. كان يجب أن تكتمل الصورة التي ظهر فيها محمد الدخيل، طفلاً لم يتجاوز الستّة أعوام، يقف مبتسماً إلى جانب أبرز مطارَدي البلدة القديمة في نابلس، باسل أبو سرية «القذافي»، وعبد الرحمن الشناوي، وأمين لبادة، وفضل نور، الذين قضوا جميعهم في عمليات اغتيال متفرّقة عام 2007. يقول والده رائد في حديثه إلى «الأخبار»: «عندما كان يغيب محمد وهو في سنّ السادسة من عمره، كنتُ أسأل أنا ووالدته عن مكان تواجد المقاومين والمطارَدين، وأجده وسطهم»، مضيفاً: «أسميتُه محمد، لأنه ولد عام 2000، العام ذاته الذي استشهد فيه عمّه محمد، خلال مواجهات وقعت قرب قبر يوسف في نابلس».
كان شغوفاً بالمقاومة، عاش على أحاديث البطولة والشهداء، وفي الرابعة عشرة من عمره، تعرّف إلى شخص يجيد صناعة القنابل، ونفّذ أوّل عملية على جبل جرزيم، اعتُقل على إثرها سبعة أشهر في سجون السلطة، قبل أن يُعاد اعتقاله مرّات عدّة في وقت لاحق في سجون الاحتلال. يُرجع المقاومون الفضل في إعادة بعْث المقاومة في المدينة، إلى دماء محمد الدخيل ورفاقه أدهم مبروكة وأشرف مبسلط وإبراهيم النابلسي. يقول أحد مقاومي «كتيبة نابلس» لـ«الأخبار»: «دفَع محمد دمه لإشعال المقاومة من جديد، بدأ وحيداً برفقة النابلسي، ثمّ التقى هو ورفاقه مبسلط ومبروكة (...) يمكن لي أن أزعم، أنه لو لم يَقتل الاحتلال الأقمار الثلاثة، أو اكتفى باعتقالهم، لمَا كنّا سمعنا عن كتيبة نابلس ولا عرين الأسود».
طوال أشهر من المطارَدة، حاول والده بدافع الأبوّة إقناعه بأن يترك الطريق الذي سلكه. يقول أبو محمد: «ابني بسيط وليست له تجربة في الحياة، كنتُ قد حذّرته مراراً وطلبتُ منه التريّث. في إحدى المرّات، سألتُه لأجل مَن ستموت، وعندما أجاب، إذا كنت معتقداً أنّني سأُقتل لأجل أحد فأنت مخطئ، أدركتُ أنه يطيع حسّه، وأن أيامه في هذه الحياة لن تكون طويلة». يتابع: «تفاجأت أن محمد قد اشترى بندقية "أم 16" من حُرّ ماله، وبعد سلسلة من اتّصالات التهديد من المخابرات الإسرائيلية، ترك منزلنا، وأقام في منزل جدّته في البلدة القديمة، وتعهدها بالخدمة والرعاية حتى استشهاده».
يحق القول إن عملية اغتيال الرفاق الثلاثة في وسط البلدة القديمة في نابلس ظهر 21/2/2022، أورثَت شعوراً جمعياً بالقهر. وحين حملت والدة الدخيل بندقيته أمام جثمانه وسط الآلاف من الجماهير، كانت تلك الإشارة التي التقطها المئات: «لا تتركوا طريقه».

محمد أيمن السعدي... لسنا العابرين


يقترن اسم الشهيد محمد أيمن السعدي برفيقه مؤسِّس «كتيبة جنين»، جميل العموري. غير أن «أبو الأيمن» كان القائد الأكثر طموحاً في الكتيبة، حَمل بعد صديقه عبء البدايات، هواجس الاجتثاث، هموم التنظيم والاستقطاب، واستطاع نقل الحالة من الفردية إلى التنظيم. يقول أحد رفاقه في الكتيبة، في حديثه إلى «الأخبار»، إن «شخصية ابن الـ26 عاماً كانت تَجمع ما بين إقدام الشباب في المواجهات، حيث يتقدّم الصفوف، وديناميكية القادة»، مضيفاً: «بعد استشهاد العموري، حرث أبو الأيمن الأرض، واستطاع تأمين خطوط الدعم والتمويل، وبدأ في بناء وتشكيل الكتيبة، مستأنساً بتجارب رفاقنا السابقين، محاذراً الوقوع في ذات الأخطاء، كان يطمح إلى نقل الكتيبة المحصورة في حدود المخيم، إلى ظاهرة تمتدّ إلى كل مناطق الضفة الغربية المحتلّة».
انخرط الرجل مبكراً في حياة المطاردة. اعتُقل في المرّة الأولى في سنّ الـ16 عاماً، وعقب خروجه من السجن، بدأت جولاته الشاقّة التي خاض خلالها عشرات الاشتباكات، وأصيب فيها مرات عدّة. تحْمل شخصية «أبو الأيمن» الذي ابتُلي بفقد والده بعد يوم واحد من خروجه من سجون الاحتلال إثر اعتقال دام عامَين، سرّاً أكْسبه قبولاً ومحبّة لدى الجميع. يقول ابن عمّه، شافع السعدي، في حديثه إلى «الأخبار»: «أكثر ما يميّزه، أنه مرح وصاحب دعابة، يحبّ الكبارُ والصغار مجالسته، ينتقل بِمَن يرافقهم من أجواء الكآبة إلى السعادة والتعالي على الهموم». علاوة على ذلك، عُرف عنه النفَس الوحدوي الذي تجاوز به التقسيمات الحزبية، وكثيراً ما ظهر في مقاطع مصوَّرة يهتف باسم محمد الضيف وإبراهيم النابلسي وقادة «عرين الأسود».
في أحد لقاءاته المصوَّرة التي كان يتحدّث فيها عن رفيقه جميل العموري، قال السعدي: «أمنية جميل ووصيّته أن لا نكون حالة عابرة مؤقّتة، أن نؤسّس بنية يستمرّ أثرها وفعلها من دون أن يستطيع الاحتلال اجتثاثها». قضى «أبو الأيمن» بعد أن خاض اشتباكاً طويلاً مع القوات الإسرائيلية الخاصة في مخيم جنين برفقة صديقه نعيم الزبيدي مطلع شهر كانون الأول الجاري. وعقب استشهاده، بدا واضحاً أن حدود الكتيبة التي نَذَر حياته في سبيل تطويرها وتوسعتها، امتدّت إلى خارج المخيم، في قباطية وعرابة وجبع، وأضحت هاجساً حقيقياً تقدّر قوات الاحتلال عديدها بـ150 مقاتلاً.

محمد حرز الله... «عزماتك ما انسينا»


في مساء الثالث والعشرين من تشرين الثاني الماضي، أغلق «أبو حمدي المجروح» عينيه إلى الأبد، بعد أربعة أشهر من إصابته خلال التصدّي لقوات الاحتلال، التي هاجمت منزل رفيقَيه عبود صبح ومحمد العزيزي في البلدة القديمة في نابلس، قضى تلك المدّة، وهو يسكن عيون ملايين الفلسطينيين، في الضفة الغربية وقطاع غزة ومخيمات الشتات. واكب الآلاف حالته الصحّية، في الشوارع والمقاهي وطابور الصباح في المدارس. حفظ الجميع النشيد الثوري الذي خلد اسمه: «يا أبو حمدي المجروح... عزماتك ما انسينا».
هو محمد أحمد حرز الله، الخليط العجائبي من الشهامة والرجولة والكتمان و«البلادة اللذيذة» أيضاً. تقول شقيقته، الزميلة الصحافية رشا حرز الله، في حديثها إلى «الأخبار»: «يَحضر أبو حمدي في التفاصيل الصغيرة. على رغم أنه هادئ جدّاً وكتوم للغاية، وكثير الغياب عن المنزل، فإن مشاكساته لا تُنسى. عندما كنتُ أَزور عائلتي في البلدة القديمة يوم السبت، أَدخل الحيّ وأَلمحه على باب صديقه الحلاق، أشير إليه، فيأتي ليحمل عني الشنطة الثقيلة، يمدّ يده مسلّماً عليَّ برسمية مبالغ بها، كالغرباء، يحافظ على مسافة في مشيته معي، لأن تقبيلي له أمام الحيّ يثير عصبيّته، يمشي ببلادته المعتادة وهو يتمتم: "بتأشريلي مصلحة حتى أحمل عنك الشنطة، مهو أنا عتال"».
أربعة أشهر قضاها ابن الـ30 ربيعاً في رحلة العلاج، أُجريت له فيها نحو اثنتَي عشرة عملية جراحية، وواكبت خلالها رشا أخباره مع مُتابعيها عبر «فايسبوك». أَحبّه أهل البلدة القديمة التي أحبّها هو في المقابل إلى الحدّ الذي كان يرفض الخروج منها حتى للعمل. تقول حرز الله: «في إحدى الفترات، كان يبحث أبو حمدي عن عمل، طلبتُ منه أن يبحث في أيّ مكان خارج البلدة القديمة، فردّ بالقول: لك أنا من الحارة ما بطلع مش من البلدة القديمة، وواصل بحثه إلى أن وجد عملاً بجانب البيت». تستذكر شقيقته طفولته المرحة المشاغبة: «ذات مرّة، أخذناه بيدنا إلى المدرسة، ثمّ كرّر عادته بالهرب متوجّهاً إلى حيث الاشتباكات مع الجيش بالحجارة، وما إن وصلنا إلى البيت حتى شاهدناه في البثّ التلفزيوني المباشر وهو يحمل إطار كوشوك يتجاوز بحجمه جسمه النحيل، ويلقيه على جيب إسرائيلي».
خلال مرضه، انتشرت عدّة مقاطع مصوَّرة لشقيقه نضال المصاب بـ«متلازمة داون»، وهو يرافق أبو حمدي في المستشفى الاستشاري في رام الله. تصف رشا علاقته بأخيه بالقول: «كان يحبّه كثيراً، لكن أبو حمدي لا يعبّر عن مشاعره بشكل تقليدي، كان يكثر المزاح معه، كانا مثل "ناقر ونقير"، لكن نضال كان يشعر بقدْر الحب الذي تكنّه مشاغبات أخيه». كشفت إصابة «صاحب الفزعة والعزمات»، ثمّ استشهاده، عن هامش من همومه المخبوءة خلْف ستار صمته وكتمانه. هو مقاوم مشتبك، جريء وبطل، يقول أحد رفاقه في «عرين الأسود»: «تفاجأنا أن عائلته لا تمتلك أيّ إحاطة حول حياته الجهادية، وتفاجأنا أكثر حينما فاجأتهم مشاهد اشتباكاته البطولية في البلدة القديمة».
رحل أبو حمدي، زفّه عشرات الآلاف، حملوه على الأكتاف وطافوا بموكبه مدن الضفة الغربية، من المستشفى الاستشاري في رام الله، ثم إلى بيرزيت، ثمّ إلى حاجز حوارة. وفي غزة، بكتْه الآلاف من العيون، التي كانت تأمل أن تنتهي رحلة العلاج بالشفاء.

محمد صوف... وجئتَ فكنتَ اعتذارَ الزمان إليّ


بالقدْر الذي تركتْه عمليته البطولية من بهجة، كانت المفاجأة التي عاشتها عائلة الشهيد محمد صوف. في مستوطنة «آرئيل»، في منتصف شهر تشرين الثاني الماضي، نفّذ ابن بلدة حارس انتقاماً طال التخطيطُ له. صاحب الـ18 ربيعاً صفّى حساباً شخصياً، وعامّاً. أمّا الأول، فَلِصالح والده الذي توفّي قبل ثلاث سنوات، جرّاء حقْنه بدم فاسد عقب إصابته بمرض التهاب الكبد الوبائي، وهو في داخل سجون الاحتلال التي زُجّ فيها مطلع الانتفاضة الثانية عام 2000، وأورثتْه أمراضاً عديدة آخرها السرطان. وأمّا الثاني، فلفلسطين عامّة، وأبناء قريته سلفيت خاصة، التي كانت جرافات الاحتلال قد اقتلعت قبل أيام من انتقامه، 2000 شجرة زيتون منها، وقَتلت ابنة حيّه الطفلة فلّة المسالمة.
«رياضي وهادئ ومتّزن، دمث الخلق وعزيز النفس، أنيق الطلّة وحَسن المظهر»؛ هكذا وصفه عمه مصطفى في حديثه إلى «الأخبار». والمُفاجئ في عمليته، هو أنه لم يُظهر طوال حياته أيّ اهتمام بالسياسة، إذ انشغل عقب وفاة والده برعاية عائلته، حيث ترك الدراسة بعد أن أتمّ الصف العاشر، وبدأ العمل في مستوطنة «آرئيل» المحاذية لقريته، للإنفاق على أخوَيه وأخواته الثلاث ووالدته. يواصل عمّه حديثه: «كنتُ أقتطع من راتبه الشهري ألفَي شيكل لأبدأ البناء، كنّا نخطّط لأن نزوّجه في سن العشرين، كي نُدخل الفرح على أسرته».
بدأ «المقاوم اليتيم» عمليّته التي استبقها بتدريب رياضي طيلة عام كامل، نحو الساعة التاسعة والنصف صباح الثلاثاء 15/11/2022، بطعن مستوطن على مدخل المستوطنة الصناعية، ثمّ انتقل إلى محطّة محروقات قريبة وطَعن فيها مستوطنَين آخرين، ثمّ استولى على مركبة وقادها ليدهس مستوطِناً رابعاً، قبل أن يطلق جنود الاحتلال ومستوطِنون كانوا في المكان النار عليه، ويسقط على الأرض مضرَّجاً بدمائه ويرتقي شهيداً. الانتقام الذي وثّقت كاميرات المراقبة تفاصيله كافة، وأسفر عن مقتل ثلاثة جنود وإصابة آخرين، بدا صاحبه «الأنيق» وكأنّه قد استطاع أن يحرّر أرضه ويقيم عليها دولة كاملة السيادة، لـ20 دقيقة فقط.

صدقْتَ يا وديع... لم يُكسَر ظَهر المدينة بَعدك


لم يكن سهلاً على أهالي نابلس أن يتقبّلوا فكرة رحيل وديع الحَوح. خلال الأشهر الأخيرة، أضحى ابن الـ31 ربيعاً أسطورة في الوعي الجمعي لسكّان البلدة القديمة تحديداً. في ليلة استشهاده 25/10/2022، حَمله الآلاف من مُحبّيه على الأكتاف، نظروا في عيونه المسبّلة وقد هدأت أخيراً، وهتفوا بحرقة: «من المبكر كثيراً أن تموت يا وديع». ذهبوا به إلى المستشفى العربي في نابلس، آملين أن يكون نبضه قد عاد. وأمام إصرار الجماهير المتعطّشة لبقاء «الملهِم»، اضطرّ الأطبّاء لإدخاله مجدّداً إلى غرفة العناية المكثّفة، متظاهرين بأنهم يحاولون إنعاشه. خلْف الباب، هتفت حناجر الآلاف: «يا رب». لكن أبو صبيح كان قد استشهد، ليتوزّع نبضه في أفئدة الآلاف من مُحبّيه.
«انتهى الكلام، بدأ الفعل باسم الله»؛ بهذه العبارة كان يفتتح «بطل حارة الياسمينة» كلّ موجة فعلٍ مقاوم. البَنّاء وفَنيّ الديكور، تَرك المجال الذي أبدع فيه، بعد أن أتمّ بناء بيت أشبه بقصر أموي نجا مصادفة من تعرية العصور وتوالُد الحضارات. سيغدو البيت الذي كان أُعدّ لمشروع الزواج، والذي يتوسّط منطقة حوش العطعوط في البلدة المسمّاة «دمشق الصغرى» لشديد ما تشبه العاصمة السورية العريقة، «بيت العمر» بعد اتّخاذه من قِبَل «عرين الأسود» مقرّاً رسمياً لإدارة العمليات، وكتابة البيانات، وتصنيع العبوات، وإحاطته بعشرات الأفخاخ من العبوات والكمائن، في انتظار لحظة لا شكّ قادمة.
في «الياسمينة» حيث ولد رفيقاه عبود صبح ومحمد العزيزي، ولد الحَوح وتربى، وحيداً من الذكور بين شقيقاته الثلاث. ذاق مرارة الفقد واليتم مبكراً، فرحلت والدته وهو ابن 9 سنوات إثر نوبة صحّية مفاجئة. أكمل دراسته حتى الصفّ العاشر، ثمّ ترك الدراسة ليتحمّل مشقة العمل. في مقتبل العمر، تجرّع مرارة الاعتقال (2011 و 2018)، ثمّ المطاردة والتهديد الدائم بالتصفية. إلى جانب الاستعداد الهائل للتضحية بالمال والنفس، حملت شخصية «أبو صبيح» قدْراً عالياً من الإلهام والتأثير، فهو «محبّ، وصادق في مشاعره، ومخلص حتى الموت لأصدقائه»، يقول والده. أمّا في المقاومة، فقد التقط الرجل مع رفيقه العزيزي، مستوى التعقيد المجتمعي والحزبي الذي يَحكم مدينة نابلس، فكان تشكيل حالة «عرين الأسود» الجامعة لكلّ ألوان الطيف الفصائلي، عبوراً من مأزق الحرج الذي تولّده تلك التعقيدات. كذلك، أجاد «البطل»، على نحو شديد الفعالية صياغة خطاب إعلامي جديد، فهو من دبّج النسق الإعلامي العاطفي الأخّاذ لبيانات «العرين».
رحل وديع «مخلصاً لله»، ووفيّاً لعهده مع رفيقه تامر الكيلاني بأن «نستشهد معاً» بفارق يومَين اثنين فقط. رحل ولا يزال صدى كلماته يتردّد في أزقّة البلدة: «المهمّ أن نترك أثراً... ثمّ لِنُقتل بَعدها... لن يُكسر ظَهر المدينة بَعدي».

عبد الله أبو التين... مَن ألبس الغرابة ثوب الممكن


كان صادماً للأطبّاء في «مستشفى الشهيد خليل سليما» الحكومي في مدينة جنين، أن يكتشفوا بعد أن أماطوا اللثام عن وجه مقاومٍ غارق بدمائه، أنه هو نفسه زميلهم الدكتور عبد الله الأحمد أبو التين. في قسم الاستقبال، خاض الطاقم الطبّي ملحمة استمرّت ثلاث ساعات لإنقاذ حياته، انتهت برحيله الصادم لكلّ مَن عرفه. في يوم الجمعة 14/10/2022، وفي خلال اجتياح جيش الاحتلال لمخيم جنين، همّ بالخروج على غير عادته في ذلك اليوم، اعترضه طفله زين سائلاً: «على وين يا بابا»، فأجابه بما يشبه المزاح: «رايح أطخ على الجيش حبيبي». غادر بيته مسّلماً مبتسماً، قبل أن يعود إليه محمولاً على الأكتاف.
الطبيب المشتبِك كان قد عمل لسنوات طويلة في المهنة التي أخلص في حُبّها، إذ أضحت طريقه إلى قلوب مئات الفقراء الذين كان يعالجهم بالمجّان خارج ساعات دوامه الرسمي. عقب ذلك، شغل منصب مدير وحدة التراخيص في وزارة الصحة. يصفه زميله الدكتور نجي نزال في حديث صحافي بالقول: «كان إنساناً بكلّ ما تحمل الكملة من معنى، متواضعاً، لا تغيب الابتسامة عن وجهه»، مضيفاً: «كان كتوماً جدّاً، وما قُدرته على إخفاء كوْنه مقاوماً ميدانياً ومؤسِّساً لجناح عسكري في جنين إلّا خير دليل على هذا، فرغم علاقتنا المتينة لم نلحظ أبداً أن لديه هذا التوجّه».
في عالمَين موازيَين، عاش «المسؤول الكبير في وزارة الصحة». يذهب إلى عمله بسيّارته الفارهة وبذلته الأنيقة، وفي المساء، يعود ليجالس أمّه وعائلته وطفلَيه، ثمّ يخرج متخفّياً لينخرط في عمله المقاوم. «يجيد الطبيب المقاوم استخدام السلاح على نحو مبدع»، يقول أبو محمد، وهو أحد رفاقه في «كتائب شهداء الأقصى»، مضيفاً في حديثه إلى «الأخبار»: «عاش حكيم الكتائب حياة مترفة، فهو يمتلك معرض سيّارات في جنين، ومقتدر مادياً، وقد بذل وقته وأمواله في بناء خلايا الكتائب، وأنفق عليها لشراء الأسلحة (...) يمتلك حسّاً أمنياً عالياً، خلال سنوات من عمله في بناء وتأسيس الكتائب، لم يتجاوز عدد مَن يعرفون بدوره أصابع اليد العشرة».
قضى الطبيب المشتبِك، كاشفاً برحيله تفاصيل غابت طوال سنيّ حياته الـ43، وجامِعاً بين «البالطو» الطبّي الأبيض وسمّاعة علاج المرضى وبين الزيّ العسكري والبندقية، في تمازُج استثنائي لرجل ألبسَ الغرابة ثوب الممكن، والاستثناء طابع العاديّة.