في اليوم ذاته الذي انتشر فيه فيديو "استتابة أطفال غزة" كلمتني صديقة من هناك، وسألتها عما تفعل في أيامها، فأخبرتني أنها تخرج صباحاً للركض قرب البحر، وتشارك في دورة خاصة لتعلم الرقص التعبيري؛ لم أستطع تصديقها، أخبرتها أنه من غير الممكن أن نجد من يتجرأ على "إخراج" الشيطان من أطفال صغار، ويقيم لهم طقوس "توبة" تبدو مرعبة، وكأن عمرهم يسمح بآن أن يكونوا قد "عملوا السبعة وذمتها"، وفتاة تركض على شاطئ البحر؟ أمران لو اجتمعا فمعناه، أني سأسمع بخبرها شهيدة حرية الركض في القطاع!
ربما لم يكن بمقدور أحد أن يصدق مشاهد الفيديو التي عرضت علينا، وبكاء الأطفال، واستماتة "الشيوخ" لإعلان توبة من لم يبلغوا سن الحلم بعد! لكن الأمر لا يخرج عن الحقيقة المرة، في مكان مر بثلاث حروب فتاكة، أعلن فيها "انتصار" المقاومة، وما انتصر أحد غير الشعب الصامد الذي هدمت بيوته وقتلت فيه فلذات الأكباد.
"حماس" الحاكمة في القطاع، لم تجرم الفعل، ولم تخرج ببيانات ترفض فيه فعل "جمعية ابن باز"، بل على العكس يبدو أنها اقتنعت أن الطلبة ممن "بلغوا الحلم" يجب أن تنظم لهم فعاليات استتابة، كونهم خاضوا المعاصي، وبعضهم يضعون "الجل" على شعورهم، ومنهم من يرتدي الجينز وفي هذا معصية عظمى لمن لا يعلم.
منذ سنوات أسمع شباب قطاع غزة يرددون أنهم سيخرجون من هناك عند أول فرصة، خروجاً بلا عودة، إلا إذا تغير الواقع هناك، يُقصد قوى الأمر الواقع. بعضهم سرّ لي، أنه لن يعود إلا بعد إنهاء حكم حماس، ويبدو أني لا أكشف سراً خطيراً.
فمن شاهد فيديو "استتابة الأطفال" في إحدى مدارس القطاع قبل أيام، سيذهب إلى النتيجة التي ذهب لها جمع من الشباب في ذاك المكان الأكثر كثافة سكانية في العالم، والأكثر احتمالاً وصبراً، بعد ثلاث حروب خاضها بصمود ما له مثيل، صمود الشعب وحده واحتمال أن يعيش ببراكسات حديدية حارقة مغرقة، وعلى الطرقات وأحياناً في مجرد خيام... كل هذا لأجل الكرامة.
لكن أن يتمادى بعض من يزعمون أنهم رجال دين ضمن مسمى "جمعية ابن باز"، ليدخلوا مدارس القطاع، لاستتابة الأطفال هناك وإخراج الشيطان منهم، فهذا ليس له علاقة بالكرامة ولا بالعقل ولا بأي منطق، لا علاقة، سوى بمن ظنوا أن معهم صكوك غفران كالتي كانت تمنحها الكنيسة في العصور الغابرة لأوروبا الجاهلة التي كان رجال الدين فيها يطاردون الساحرات، وربما لا فرق بينهم وبين السلطات الأمنية الفلسطينية في الضفة الغربية التي فاخر رئيسها محمود عباس، بأنها فتشت طلبة المدارس، وصادرت نحو سبعين سكيناً.
كل هذه السخرية الفلسطينية، موجودة تحت حكم حماس وفتح، في غزة والضفة، لا فرق بين الحكمين، رغم أنهما يرتديان لبوسين مختلفين.
ليس غريباً أن يهرب الشباب من قطاع غزة، و"حماس" لم تندد بما فعلته "جمعية ابن باز"، ولم ترفض، ولم يسمع أحد أنها لاحقتها، وقد دخلت مدرسة من مدارس القطاع، ما يجعل المرء يرجح أن الحكومة هناك على علم ومعرفة، وتقبل بما جرى، وهنا تكمن المصيبة.
وللأسف ثمة ما يدل على ذلك، قرارات عدة للحكومة في غزة، منها حالة الجدل الواسع حول ما وصفته بعض المنظمات الحقوقية قبل ثلاث سنوات بحملة "ترسيخ القيم والفضيلة"، التي قامت بها شرطة حكومة حماس، واستهدفت حينها ملابس وقصات شعر بعض الشبان والفتيات في القطاع. حينها جاء في الأخبار (العدد ٩٠٣ الاثنين ٢٤ آب ٢٠٠٩) "عمّمت المدارس الحكومية، التي تديرها حكومة «حماس» في غزة، على الطالبات ضرورة ارتداء الجلباب وغطاء الرأس (الزي الإسلامي الشرعي)، ما أثار ردود فعل متباينة في أوساط الطالبات، وصلت إلى حد التفكير في التوجّه إلى الدراسة في المدارس الخاصة"، أي تلك الخارجة عن السلطة "التربوية" الرسمية!
هؤلاء الأطفال في قطاع غزة، سيكبرون، بعضهم إن أكملوا ما بدأوه بالاستتابة، سيكمل طريقه إلى "داعش" أو أنه سيهرب من غزة، لينقلب على كل قيمة هناك، حتى يحررها من نيرونين بدلاً من نيرون واحد، أحدهما يحتل باقي الأرض، وآخر يحتل الأفكار بالتعنيف والإجبار.
أخيراً في غزة ذاتها، هناك طفل لم يبلغ الخامسة عشرة من عمره، لكنه "بلغ الحلم"، يرسم بإبداع الكبار، ولا أعرف إن كانت "جمعية ابن باز" أو من خلفها، قد قامت باستتابته باعتبار أن الرسم ليس "حلالاً"!