لم يكن كيان العدو يحتاج إلى اغتيال قادة عسكريين في «سرايا القدس»، ومدنيّين أيضاً، في قطاع غزة، ليُثبت قدرته العسكرية والتكنولوجية، وإنما أراد إثبات امتلاكه الإرادة السياسية لتنفيذ ذلك، في مسعاه لاستعادة صورة المبادِر إزاء المحيط المعادي، وتبديد صورة المنكفئ والمردوع، وفرض أجندة أمنية على جدول اهتمامات الرأي العام، بدلاً ممّا هو قائم في ظلّ الانقسام الداخلي المتفاقم، علماً أن تحقّق العديد من هذه الأهداف رهين بطبيعة الردّ الفلسطيني وحجمه والأطراف المشاركة فيه. ومع ذلك، فإن رئيس وزراء العدو، بنيامين نتنياهو، يبدو الأكثر حاجة إلى خوض مغامرة عسكرية، ورفع مستوى التحدّي، بهدف إعادة اللّحمة داخل حكومته، وتعزيز مكانته الشعبية التي تدهورت إلى مستويات غير مسبوقة. لكن خياراته في هذا المجال، وإن كانت تحظى بدعم المعارضة، تظلّ موضع تشكيك في خلفياتها وأهدافها، بخاصة إذا ما تدحرجت المواجهة إلى أكثر مما هو مقدّرٌ إسرائيلياً.الأكيد أن أجهزة العدو الأمنية أجرت عملية تقدير لتداعيات هذه العملية. لكن البيان الصادر عن مكتب المستشارة القانونية، بهاراف ميارا، والذي أورَد «أنه بموجب نصّ القانون لا توجد حاجة لعقد المجلس الوزاري المصغر للشؤون السياسية والأمنية من أجل تنفيذ عملية عسكرية»، يؤشّر إلى أن ما تمّ تقديمه لها مفاد بأن ما سيجري لن يؤدّي إلى مواجهة عسكرية واسعة أو إلى حرب. ولو كانت الصورة بخلاف ذلك، لكانت توصيتها القانونية بضرورة أخذ موافقة المجلس الوزاري المصغّر. على هذه الخلفية، يمكن تفسير ما تردّد في وسائل الإعلام الإسرائيلية بأن المؤسسة الأمنية تقدّر مواجهة عسكرية تستمرّ ثلاثة أيام. إلّا أن عدم الردّ الفوري والتلقائي على عملية الاغتيال من قِبل حركة «الجهاد الإسلامي»، شكّل نوعاً من «المفاجأة التكتيكية» للعدو الذي كان يتوقّع تدحرجاً ميدانياً سريعاً، يتصاعد قليلاً، ثم ينتهي إلى ما انتهت إليه الجولات الأخيرة. ويبدو أن أداء المقاومة في هذا الخصوص، رفع مستوى القلق، وعاكس التقديرات والرهانات التي شكّلت منطلقاً لقرار الاغتيال. وهي رهانات يأتي في رأسها أن استهداف قادة «سرايا القدس» حصراً، كفيل بتحييد حركة «حماس» عن المواجهة، وبالتالي فرض قيود ميدانية على «السرايا» لجهة المدى وحجم النيران والمدة الزمنية والعمق الجغرافي، ومن ثمّ الحؤول دون التدحرج إلى مواجهة كبرى. والظاهر أن العدو بدأ يتلمّس مؤشرات سقوط هذا الهدف، مع الإعلان عن أن الردّ سيكون مشتركاً ضمن «الغرفة المشتركة».
تميّزت عملية الاغتيال بأنها لم تكن في سياق مواجهة عسكرية مفتوحة، وإنّما خطوة ابتدائية مباغتة، وهو ما يرمي إلى توجيه رسالة إلى قيادات المقاومة، مفادها أنهم على المهداف في كلّ حين، وأن التهديد المحدق بهم غير محصور بسياق المواجهة التي قد يكون أصلاً من الصعب استهدافهم خلالها. أيضاً، تهدف العملية إلى إثبات استعداد دولة الاحتلال لتفعيل خيارات عدوانية، مع علمها المسبق بأنها ستتعرّض لردّ عسكري يطاول عمقها، على الأقلّ ضمن سقف محدّد من الردود التي تراهن على أنها قادرة على التعامل معها. كما لم يكن استهداف الشهداء وسط عائلاتهم والمدنيين، أمراً عرضياً، بل جاء مدروساً وهادفاً، بهدف القول إن قيادة العدو ماضية في ما نوتْه مهما كانت الخسائر البشرية. وإذ يعكس ذلك اطمئنان الكيان إلى الدعم الأميركي والغربي والدولي له، فهو يهدف إلى تقليل المفاعيل الردعية للجولات الصاروخية المحدودة، على اعتبار أن التصعيد الصاروخي الكبير هو سيناريو تسعى إلى تجنّبه «قوى المقاومة» في هذه المرحلة، بحسب التقدير الإسرائيلي. ولذا، فإن أيّ ردود خارج حسابات الاحتلال وسيناريوهاته، ستعني إحباطاً للهدف المذكور، وتأسيساً لنتائج مغايرة.
في ضوء ذلك، فإن الأسئلة التي تهيمن على أجهزة التقدير والخبراء الآن، تتمحور حول المدى الزمني والجغرافي للمواجهة العسكرية المرتقبة، وإمكانية تدحرجها إلى مواجهة إقليمية أو معركة طويلة زمنياً مع قطاع غزة. ولعلّ من أهم العوامل المُحدِّدة في هذا السياق، حجم مشاركة حركة «حماس» في الردّ، ومقدار الضغط العسكري، وما سينتج منه من دينامية عسكرية، واحتمال توسّع نطاقه وتمدّده باتجاه الجبهة الشمالية. تستند قيادة العدو في تقدير سيناريوات تدخّل «حماس» في القتال، إلى أكثر من سابقة، من ضمنها عملية «بزوغ الفجر» في ظل حكومة لابيد – بينيت. كما تتخوّف من أن تدخّل الحركة الجدّي والفعّال قد يرفع مستوى المواجهة، ويعمّق تأثيرها في الساحة الإسرائيلية، على كافة المستويات العسكرية والسياسية والردعية، وبالتالي يجبر العدو على اتّخاذ إجراءات إضافية من مثل تجنيد أكبر للاحتياط. لكن الاحتلال لا يزال يراهن بنسبة أو بأخرى على أن تكون «حماس» معنية بجولة قصيرة، انطلاقاً من مجموعة اعتبارات من ضمنها أنه ليس من مصلحتها إيقاف دخول 17 ألف عامل من القطاع للعمل في إسرائيل، وإيقاف المساعدة القطرية الشهرية. أيضاً، يتحسّب العدو لإمكانية انضمام الجبهة الشمالية كما حدث في الشهر الماضي في أعقاب أحداث المسجد الأقصى. وهو سيناريو يبدو أن أسهمه ارتفعت لدى قيادة الاحتلال، الأمر الذي دفع نتنياهو، خلال مؤتمر صحافي أمني بالأمس، إلى توجيه إنذار مباشر بالقول إن «إسرائيل تواجه محاولات إيران فتح معركة متعدّدة الجبهات ضدّ إسرائيل»، وأنه أمرَ الجيش والأجهزة الأمنية بأن تكون جاهزة لذلك، و«إن تطلّب الأمر حرباً طويلة، سنخوضها». وخلال المؤتمر المشترك بين كل من رئيس الحكومة ووزير الأمن ورئيس هيئة أركان الجيش ورئيس «الشاباك»، كشف نتنياهو أن قرار اغتيال القادة اتُّخذ «قبل أسبوع، عندما أطلقت الصواريخ»، بعد استشهاد الأسير خضر عدنان. كما شدد على الحاجة إلى «الصبر في الأيام المقبلة». أما غالانت، فأكّد قدرة العدو على «استنساخ» العملية في جبهات أخرى، مشيراً إلى أنه في «الليلة الماضية نضجت العملية، وتمّ تنفيذها بعد معلومات استخباراتية»، مستدركاً بأن «هذه العملية لم تنته، وقد نشهد إطلاق صواريخ على مناطق قريبة وبعيدة، بقوة كبيرة».