لن يَعدّ محمد الأيام والساعات بعد اليوم. ليس في رحاب أيام الصيف المنتظَر، ما سيغمض عينيه ليلاً ليتأمّل روعته، بعد أن استحال حلم الزواج ذكرى سيجتهد كثيراً ليستطيع مواصلة حياته الطبيعية على وقعها. على أنقاض غرفة خطيبته دانا (19 عاماً)، سيطيل التأمل والتحسّر. وحده يحتفظ بكلّ ثانية يحويها شريط اللقاء الأخير، حين زارها قبل ساعات من القصف الإسرائيلي الذي طاول منزل جارها، الشهيد خليل البهتيني، في حيّ الشعف شرقي الشجاعية شرق مدينة غزة، وأودى بحياتها وحياة شقيقتها إيمان. في تلك الليلة، طلبته خطيبته لزيارتها، ليشرح لها شيئاً ممّا صعُب عليها في دراستها، غير أن الساعات الجميلة التي مضت سريعاً، ستكون آخر عهده معها. عبثاً، يحاول محمد سعد (19 عاماً) إخفاء انكساره، وهو يروي حكاية حلمٍ لم يكتمل. تُقاطع حديثه تمتمات أشبه بالهذيان: "كسروا قلبي... ضيّعوا حلمي المجرمين"، ثمّ يردف: "خطبتُ دانا قبل ثلاثة أشهر، تعلّقتُ بها، وأحببتُها كأنّني أعرفها منذ زمن، كانت تدرس في كلّية إدارة الأعمال، وهي متفوّقة في جامعتها، وكنّا قد اتفقنا على أن أكمل مسيرتي التعليمية التي ألهاني عنها انهماكي في عملي الحرّ، تحت إشرافها ومتابعتها بعدما تنتهي هي من الدراسة". ويكمل: "كلّ شيء انتهى قبل أن يبدأ، قتلوا روحي، خطّطنا لكلّ شيء، مراسم الزفاف التي سنقيمها في شاليه، حجزتُ فرقة الزفّة، ولم أعرف أنّني سأزفّها شهيدة للسماء".
عبثاً، يحاول محمد سعد (19 عاماً) إخفاء انكساره، وهو يروي حكاية حلمٍ لم يكتمل


يتابع الشاب المكلوم حديثه قائلاً: "كانت الأقدار قد رتّبت لنا لقاءات عفوية أو مدبّرة بسعيٍ مني أو منها بشكل شبه يومي، إلى أن اتفقنا على أن لا أزورها إلّا يومين في الأسبوع، لكن دائماً ما كانت تتدخّل الصدفة أو القدر في تدبير لقاء يومي ولو لدقائق". ويزيد محمد، الذي كان من المقرّر أن تُعقد مراسم زفافه في يوم الـ21 من تموز المقبل، وهو يستذكر تفاصيل الزيارة الأخيرة: "رأيتُها في تلك الليلة أجمل وأكثر بهجة وألقاً من أيّ يوم آخر". لكن لدى مغادرته منزلها، أحسّ بشعور غريب، انقبض له قلبه؛ "لن أنسى تلك اللحظة طوال عمري"، يقول محمد، ويضيف: "ما إن وصلتُ البيت، حتى سمعت صراخ والدَي دانا: شو صار؟ وين الإسعاف؟... خرجتُ من المنزل مسرعاً وعدتُ إلى منزلها الذي لا يَبعد كثيراً عن بيتنا، وجدتُ المنطقة قُلبت رأساً على عقب، بحثتُ عنها تحت كلّ حجر، كنت أتحسّس الدماء وأُكذّب نفسي بأنها ليست دماءها".
انتهى كلّ شيء: الحلم بالأطفال الذين كانت تستعجل خطيبته مجيئهم، البيت الهانئ، الطموح بالعمل في بنك... إلخ. يختم محمد حديثه بالقول: "أحببتُ كلّ ما تحبّه، لونَيها الأزرق والأحمر اللذَين لا تلبس سواهما، المشي، التصوير، البحر، أحببتُ كلّ ما أَحبّته".