قد يكون من المبكر الحديث عن نتائج المواجهة الحالية بين العدو الإسرائيلي وحركة «الجهاد الإسلامي»، وإن كان جزء منها بات ملموساً. وسواء أُعلن وقف إطلاق النار الآن، أو تَأجّل أياماً، وهو ما تريده «الجهاد» كي تنتزع إقراراً إسرائيلياً بالفشل، فإن المعطيات المتوافرة حتى الساعة تحمل كثيراً من الدلالات، ربطاً بالمواجهة نفسها، وبميزان القوة والردع بين الجانبَين، وبما يتجاوزهما أيضاً. ولعلّ أولى الحقائق التي أثبتتها الجولة الحالية، هي ارتداع إسرائيل عن مواجهة قطاع غزة بكلّ ما فيه من قدرات فعلية، ومن دون تحييد أيّ من مصادر قوّته، أي بتعبير آخر عن مواجهة حركتَي «حماس» و»الجهاد» وبقيّة الفصائل معاً. وهو ارتداعٌ يجيز التساؤل حول دلالات إفراط تل أبيب في حرصها على تحييد «حماس» عن المعركة.بدأ مسار التحييد هذا قبل أيام من تنفيذ عملية اغتيال القادة الثلاثة في «الجهاد»، وذلك من خلال الحديث الإسرائيلي المفاجئ والخارج من السياق، عن إمكانية تفعيل حقول غاز كامنة في بحر غزة، بما يعود بالفائدة الاقتصادية على الفلسطينيين. ثمّ تَواصل مع الإلحاح على أن «حماس» غير راغبة في أيّ مواجهة مع إسرائيل، وأن كلّ ما يحصل مجرّد «تجاوزات» تقودها «الجهاد» أو منظّمات أصغر منها، ولا تتوافق مع سياسة «حماس»، والتشديد على وجود «مصالح مشتركة» بين الأخيرة والاحتلال، عنوانها منع «المتطرّفين» من الإمساك بزمام الأمور على ضفّتَي المتراس، منعاً للاشتباك الذي لا يريده الطرفان، وأخيراً التمسّك بسعي إسرائيل الدؤوب لدى الجانب القطري، لزيادة المعونة المالية للقطاع، بما يؤدّي إلى مضاعفتها. أمّا في خلال المواجهة نفسها، فحرصت إسرائيل على البعث برسائل، بعضها علني والآخر منها غير علني، إلى قيادة «حماس» مفادها أنها غير معنيّة بأيّ مواجهة مع الحركة، وأنها تريد فقط «الاقتصاص» من «الجهاد».
جاء هذا الحثّ الإسرائيلي على الانكفاء، متساوقاً مع إرادة الانكفاء نفسها لدى «حماس». وسواء كانت هذه الإرادة نتيجة اتّفاق مع «الجهاد»، أو أن الاتفاق نفسه جاء في أعقاب الانكفاء وبسببه، فالأكيد أن إسرائيل شديدة الحرص على تجنّب ما من شأنه جرّ «الحمساويين» إلى المواجهة، على رغم أن بقاءهم بعيداً عنها ليس مضموناً، وخاصة إنْ وصلَ الإيذاء الإسرائيلي للقطاع إلى حدود لا يمكن معها لقيادة «حماس» أن تُواصل الوقوف في المربّع نفسه. وفي انتظار ما ستحمله الساعات والأيام القادمة، تحاول «الجهاد» تحويل هذا الواقع من تهديد إلى فرصة، بما يمكّنها من تمتين موقفها، والتجلّد أمام الأذية، إلى حين تحقّق الشروط التي تصرّ على انتزاعها من إسرائيل. بتعبير أوضح، يمكن القول إن «الجهاد» لن تلين إلّا في حال تمادي العدو في أذيّة المدنيين، بينما مطلب تحييد «حماس» يفرض على إسرائيل الابتعاد عن هذا المستوى من الأذية، وهو ما يتيح لـ»الجهاد» التشدّد في موقفها.
قرار الاعتداء على قطاع غزة مرتبط بشكل رئيس، سواء في أصل اتّخاذه أو توقيته ومدّته أو مستواه وأهدافه، بالمؤسّسة العسكرية


وإذا كان العدو قد ألِف، في ما مضى من مواجهات، اتّخاذ العدوان على المدنيين وسيلة لابتزاز المقاومة، وإجبارها على القبول بالنهاية التي يرتئيها هو وفقاً لمصلحته، وفي التوقيت الذي يريده، فهو يجد نفسه اليوم أمام معضلة مركّبة: إذ ليس بالإمكان دفع «الجهاد» إلى وقف لإطلاق النار طبقاً للإرادة الإسرائيلية، بل باتت الحركة هي التي تشترط شروطاً لإنهاء المواجهة، فيما إطالة مدّة المعركة لا تتوافق مع المصلحة الإسرائيلية، وتقضم كثيراً من الإنجازات اللحظوية التي قد تكون تَحقّقت مع بدء العدوان. بعبارة أخرى، تريد إسرائيل إقفال الجولة من دون تلبية أيّ من تلك الشروط، وفي المقدّمة منها التعهّد للوسيط المصري بوقف سياسة الاغتيالات، لكن هذا المطلب بات متعذّراً وصعباً جدّاً من دون رافعات ضغط حقيقية، على رأسها، من وجهة نظر العدو، أذيّة الفلسطينيين المدنيين، والتي يبدو الإقدام عليها مجازفة كبرى، بالنظر إلى ما سيستتبعه من توسّع في المواجهة، وارتقاء في مستواها.
إزاء ما تَقدّم، يمكن تقرير الآتي:
- قرار الاعتداء على قطاع غزة مرتبط بشكل رئيس، سواء في أصل اتّخاذه أو توقيته ومدّته أو مستواه وأهدافه، بالمؤسّسة العسكرية. صحيح أنه قد يكون للمؤسّسة السياسية رأي في تأجيل أو انتخاب خيار من بين الخيارات التي تُعرض عليها، لكن في الحالة الحاضرة، فإن الكلمة العليا هي للعسكر؛ إذ يُستبعد في ظلّ الاشتباك الداخلي بين الساسة في الكيان، أن يجيّر الطرف الحاكم سلطته لإصدار قرارات تستبطن مخاطر وتهديدات، وذلك لتحسين مكانته السياسية فحسب.
- على هذه الخلفية، بدت سياسة حكومة بنيامين نتنياهو المؤتلفة من اليمين واليمين الفاشي، وبعد أشهر على تشكيلها، غير مختلفة كثيراً عن سياسة الحكومة التي سبقتها، والتي يسمّيها اليمين بـ»اليسارية الخانعة المدعومة من الإخوان المسلمين» (ائتلاف «القائمة العربية الموحدة» بزعامة منصور عباس مع معسكر يائير لابيد). وحتى في تعاملها مع قطاع غزة، حافظت على سياسة امتصاص الضربات المنطلقة من القطاع، من دون الانجرار إلى ردّ فعل يؤدّي إلى مواجهة. لكن عندما قرّرت المؤسّسة الأمنية أن الوقت حان لتوجيه ضربة، كان على الحكومة أن تصادق على قرارها، تماماً كما كانت تفعل الحكومة السابقة.
- الحكومات الإسرائيلية، إلّا في ما ندر، هي نوع من «الختم المطّاطي» لإرادة المؤسّستَين العسكرية والأمنية وتوجّهاتهما. وطابع «الختم المطّاطي» هذا، يتأكّد أكثر في مراحل التأزّم السياسي الداخلي، أو في حالات «المعضلات الشخصية» لِمَن يرأس المؤسّسة السياسية. قد يتاح لرأس الهرم في الحكومة أن ينتخب التوقيت الذي يفيده في حال تَقرّر توجيه عمليات أمنية أو عسكرية، وبما يتوافق مع مصلحته الخاصة، لكن لا يمكنه أن يفرض فرضاً أيّاً من خياراته، ما لم يستحصل على مصادقة عملية من المؤسّسة الأمنية. وفي ذلك قلب للواقع النظري، المنصوص عليه في القوانين الإسرائيلية.
- أخيراً، وبالعودة إلى سياسة تحييد «حماس»، من المفيد الإشارة إلى ما يعاب على نتنياهو في الإعلام العبري (القناة الـ 12، 11/05/2023): «... تجدر الإشارة إلى أن السياسة الأمنية التي يتّبعها نتنياهو هي السياسة نفسها التي يَجري اتّباعها في إسرائيل منذ أكثر من عشر سنوات. بدأها هو، وواصل العمل بها رئيس الحكومة السابق، نفتالي بينت (وكذلك يائير لابيد). وها هي حكومة نتنياهو الحالية تبذل قصارى جهدها لمنع حماس من الانجرار إلى المواجهة في غزة، وهو القرار الذي عملت المؤسّسة الأمنية على إيضاحه وشرحه لوزراء المجلس الوزاري المصغّر. في الجولة السابقة (في زمن الحكومة السابقة)، اتّهم نتنياهو وأبواقه بينت بالكسل تجاه حماس، لكنه الآن حذر ويضبط نفسه وينسّق بشكل كامل مع المؤسّسة الأمنية. هذا عندما يكون ممسكاً بزمام القيادة في إسرائيل، أمّا ما يقوله عندما يكون في المعارضة، فلا بأس به، لأنه يعرف من التجربة أنه لا ضرورة لأن يصمد على أرض الواقع».