يستطيع رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، أن يتحدّث عن إنجازات تكتيكية هامّة حقّقها جيش العدو، وهو أمر مفهوم وغير مفاجئ في ضوء موازين القوى التي لا تُقارن مع «سرايا القدس»؛ لكنه لا يستطيع أن يتحدّث عن «تغيير المعادلة»، كما زعم خلال جلسة الحكومة، لأن ذلك يُحسم في المرحلة التي تلي، فضلاً عن أن مجريات الميدان تؤشّر إلى خلافه. وهناك العديد من الأسئلة التي يحتاج الجمهور الإسرائيلي إلى إجابات عليها، والتي لا تمتلك قيادته ردّاً سوى بالمناورة والتهرّب؛ ومنها: هل الجولة التي خاضها جيش العدو باسم «درع وسهم»، ستردع «سرايا القدس» عن الردّ على أيّ تجاوز لخطوط حدّدتها هي، كما فعلت في العديد من المحطّات السابقة؟ وهل سيستطيع ردعها عن ألّا يتجاوز ردّها منطقة «غلاف غزة»، إلى استهداف تل أبيب؟ على أن مواصلة المقاومة ردودها على اعتداءات العدو طوال عملية «ثأر الأحرار» يدحض أيّ مزاعم في هذا المجال.في المقابل، وبعيداً من التصريحات العنترية لقادة العدو، التي عادةً ما تلي كلّ جولة مشابهة، يمكن السؤال عمّا إذا كانت القيادة الإسرائيلية ستكرّر، في المدى المنظور، خطوة عدوانية مشابهة، بعدما لمست أن المجريات الميدانية سلكت مساراً مغايراً للسيناريو الذي وضعته. وفي حال مبادرتها، هل ستكون أسيرةً لقوالب سابقة في تقدير السيناريو الذي سيلي، كما حصل في جلسة قرار الاغتيال، بالاستناد إلى سابقتَي عدوان 2019 و2022، والذي واجهته «سرايا القدس» بأداء وتكتيك فاجأ العدو وشلّ نحو نصف الكيان الإسرائيلي، وأبقى أكثر من مليونَي مستوطن في الملاجئ على مدى خمسة أيام؟ وهل يمكن العدو أن يراهن على إمكانية شلّ قدرات «السرايا»، بعدما أَظهرت قدرة استثنائية على التكيّف مع متغيّرات الميدان، إلى حدّ أن الضغوط العسكرية والسياسية للاحتلال كانت تمارَس على قيادة «الجهاد» من أجل وقْف قصف الصواريخ!
التحدّي الإضافي الماثل أمام قيادة العدو، هو في ما إذا كانت التضحيات التي قدّمتها «سرايا القدس» في غزة، ستردع المقاومة في الضفة عن الاستمرار في تنفيذ العمليات المؤلمة ضدّ المستوطنين. على أن كل هذه الأوهام ستتبدّد عند أول عملية موجعة في الضفة. وهل يمكن العدو أن يَفترض أن «السرايا» سترتدع عن الردّ في حال تجاوزت حدوداً معيّنة، بعدما أَظهرت تصميماً أسطورياً غيّر كل المشهد والمعادلة التي حاول العدو إرساءها، فيما لن تغيّر الوقائع مزاعمه التي يكرّرها نتنياهو في أعقاب كل جولة، بالحديث عن الضربة الأقسى في تاريخ هذا الفصيل أو ذاك، ولا عن تغيير المعادلة التي لن تطول الأيام حتى يكتشف الجمهور الإسرائيلي ومعه قيادته، أن شيئاً لم يتغيّر في زخم المقاومة ولا في المعادلات ولا مواصلة مراكمة وتطوير القوّة.
يمكن السؤال عمّا إذا كانت القيادة الإسرائيلية ستكرّر، في المدى المنظور، خطوة عدوانية مشابهة


في ضوء الكثير من الأسئلة المفتوحة والمؤشرات المدوية إلى عدم ضمان ألّا تجد إسرائيل نفسها مرّة أخرى أمام خيارات ضيّقة تتقارب فيها مستويات مخاطر المبادرة والامتناع، رأى رئيس الاستخبارات العسكرية السابق، اللواء تامير هايمن، (2018-2021)، أن «العملية (جيش العدو) على المستوى التكتيكي سجّلت إنجازاً كبيراً... لكن على المستوى الاستراتيجي، لم يتغيّر شيء»، في إشارة إلى عدم نجاح الجيش الإسرائيلي في إملاء معادلة جديدة أو تعزيز حالة الردع بالمستوى الذي يُقيّد قيادة حركة «الجهاد» عن المبادرة العملانية أو الردّ. هذا الواقع الإشكالي والتحدّي الذي تمثّله المقاومة في قطاع غزة، يشكّل عامل ضغط على الجبهة الداخلية وعلى مستوطني «غلاف غزة» تحديداً. ولذلك، فإن «الجمهور في إسرائيل»، بحسب رئيس مجلس الأمن القومي السابق، اللواء غيورا ايلاند، «يريد التغيير الجذري لكنه غير مستعدّ لدفع الثمن». وبفعل مخاطر خيار التكيّف مع الأمر الواقع، والأثمان الباهظة لأيّ محاولة تغيير جذري والمخاطر التي يمكن أن يتدحرج إليها، وفشل مساعي إنتاج معادلة ردع ناجعة في مقابل المقاومة في القطاع، تتعدّد المقاربات في الواقع الإسرائيلي التي تسهم في زيادة تعقيد المسألة من الناحيتَين الميدانية والسياسية، ومن أبرز معالمه التي عبر عنها اللواء هايمن: «على المستوى الاستراتيجي، لا يوجد لدينا رؤية موحّدة شاملة متّفق عليها، أو إلى أين نريد أن نسير بالصراع الإسرائيلي - الفلسطيني».
أثبتت الكثير من التجارب أن الإسرائيليين قد يجيدون وصْف مشاكلهم والتحدّيات التي يواجهونها، ويتّفقون في الكثير من الأحيان على وصف الوضع الأمثل الذي يصبّ في مصلحتهم؛ إلّا أنهم ينقسمون في الموقف من القيود التي تُثقل على صانع القرار، وفي طرح الخيارات البديلة. وعلى هذه الخلفية، يأتي ما أورده الخبير في الشؤون الاستراتيجية، إيال زيسر، في مقالة له في صحيفة «إسرائيل اليوم»، من أنه «بعد عقدَين من العمليّات في غزة، ينبغي الاعتراف بأنه ليس لدى إسرائيل حتى الآن أيّ جواب على التحدّي الذي تمثّله غزة».