سيحتاج الأمر كثيراً من الوقت، ليصدّق الرفاق والجنود وأبناء الحاضنة الاجتماعية والشعبية الواسعة، التي يتمتّع بها إياد الحسني، نبأ اغتياله. كان الرجل في وجدانهم أكبر من الموت، وأبقى من أن ينهي مسيرتَه الطويلة صاروخٌ أو قنبلة ذكية. ساعة، وساعتان، ومن ثمّ ثلاث، منّى الأحباء أنفسهم في خلالها بأنه سيطلّ عليهم مجدداً، مؤكّدين لـ«الأخبار» التي كانت على تواصل لحظي معهم، أنه نجا من القتل هذه المرّة أيضاً. لكن الأمر انقضى، وحُسم الجدل، حين تحسّس أحباؤه خاتمه الذي لم يفارق سبابته وبقايا مسبحته ومتعلّقاته، تلك التي نجت وحدها من التشظّي واللهب. احتضن محبّوه جسده المسجّى، قبّلوه، عمّدوه بدموعهم والهتاف، واستسلموا لمشيئة السماء، والتي ظلّ يطاردها طوال 27 عاماً. في بيت عزائه وأمين سرّه محمد عبد العال، ستحضر حياته الزاخرة بالتفاصيل والمواقف. اليوم، «لم يكمل رحيل أبو أنس صورةً حديثةً لقادة كبار استشهدوا أخيراً، إنما سيجمع رحيله أشتات التاريخ»، يقول صديقه أبو يحيى. حينما يُذكر ابن مخيم الشاطئ (1970)، يَحضر معه ثُلاثي «القوى الإسلامية المجاهدة - قسم»، الذارع العسكرية الأولى لـ«الجهاد»، محمود الخواجا، وأيمن الرزاينة، وعمار الأعرج، والذين حفر معهم الصخر، لكي تستمرّ المواجهة. والأخير، أي الأعرج الذي كان قد قضى في عام 1996، وقف شقيقه بين الآلاف من المعزّين برحيل الحسني، معلناً أنه شعر لأوّل مرّة منذ 27 عاماً بفقد أخيه، إذ كان «أبو أنس» رائحة الأول وظلّه وصوته الذي لم يقصّر يوماً في رعاية ذوي الشهيد وعائلته، وزارهم في كلّ المناسبات، بل وحضر في التفاصيل الدقيقة لحياتهم. هكذا كان إياد، «وفياً للدم، صادقاً في العهد، رقيقاً مع ذوي الشهداء والأسرى، شريفاً في خصومته»، كما يقول أحد جنوده المقرّبين، مضيفاً في حديثه إلى «الأخبار»: «أمضى حياته حتى آخر شعرة سوداء في لحيته، وهو يراقب نفسه، كي لا تحيد ولو ساعةً عن خطّ رفيقه محمود الخواجا. فُتحت له الدنيا، وكان يتقاضى راتباً فلكياً من عمله مديراً في برنامج غزة للصحة النفسية، لكنه عاش حياة مَن يشعر بأن كلّ صباح هو يومه الأخير في الدنيا». في بيت عزائه أيضاً، ستطالع شابَّين، بحلّتَين سوداوين وهامتَين ممشوقتَين، يعلّقان على صدرَيهما صورة «الرجل الشهم»، وفي أسفلها عبارة «هيهات منا الذلة». لا يبدو في ملامحهما التي لم تفارقها الابتسامة وهما يستقبلان «المهنّئين»، أنّهما فقدا لتوّهما «أعظم أبٍ في هذا العالم»؛ «حنون وطيب وكريم ومتسامح، راقٍ ومثقّف وواعٍ، لا تغيب الابتسامة عن وجهه، ويلاقي من يراه وكأنه يعرفه منذ زمن»، كما يقول عنه الكاتب أكرم عطا الله.
في داخل «السرايا»، سيدور حديث كبير عن أفكار الرجل وتطلّعاته. يقول أبو محمد: «أبو أنس لم يكن قائداً تقليدياً، يستهلك وقته في ترتيب الملفّات الإدارية، وإعادة بناء التشكيلات فحسب، لقد كان مشروعاً متكاملاً يمشي على الأرض (...) ركّز جهوده على بناء الفرد المقاتل، المعبّأ بالثقافة والعقيدة والفكر والإيمان، الذي يؤهّله للثبات في وجه النار، وتقديم أبلغ مستويات التضحية. وهو مؤمن بأن الثمن الذي يدفعه في طريق المقاومة، مستحَقّ على طريق تحقيق الهدف العظيم، مهما كان كبيراً». يستذكر أبو محمد، أيضاً، وهو أحد رفاقه المقرّبين، يوم أعلن الأسرى في سجون الاحتلال الإضراب المفتوح عن الطعام في مطلع شهر رمضان الماضي. وعن ذلك، يقول لـ«الأخبار»: «لم أجد الحاج أبو أنس حزيناً ومثقلاً بالهموم كما كان يومها، جلست إلى جانبه، وحاولت أن أستوضح الأمر، ظننت أن ولداً له أصيب بمرض لا شفاء له، حينها قال لي: "جميعنا يخطّط لإفطار اليوم التالي بعد صوم نهار واحد، والآلاف من إخواننا سيصومون من دون إفطار"، لقد قُدّر لي أن أشاهد كيف تغيّرت ملامح وجهه حينما ورد خبر الإعلان عن وقف الإجراءات الاحتجاجية بعد أن رضخت مصلحة إدارة السجون لمطالب الأسرى، تهلّل وجهه فرحاً، كَمَن غُمر في نهر مياه بارد بعد أن قطع صحراء سيناء مشياً على الأقدام».
يقترن اسم «الرجل الهادئ، الأنيق، الباسم، المهيوب»، وفق ما يصفه رفاقه، بعمليات تاريخية كبرى، مِن مِثل عملية بيت ليد الاستشهادية المزدوجة التي نفّذها الاستشهاديان أنور سكر وصلاح شاكر في عام 1996 ردّاً على اغتيال المؤسّس فتحي الشقاقي، وتسبّبت بمقتل 19 جندياً وإصابة 62 آخرين. كما تَحضر بصماته في عملية «ديزنغوف» التي نفّذها الاستشهادي رامز عبيد (1996)، وأوقعت 13 جندياً قتيلاً و120 جريحاً آخرين. وقبل ذلك، تبرز عملية «موراج» عام 1993، والتي شارك فيها الحسني، قاتلاً ثلاثة جنود إسرائيليين من مسافة صفر. رحل عضو المجلس العسكري ومسؤول ركن العمليات أخيراً، لتكتمل صورة غاب فيها عن الرفاق طوال 27 عاماً من المطاردة، ويتسابق محبّوه على الاحتفاظ بأثرٍ من متعلّقاته، ليس في غزة فقط؛ إذ أعلن «محبّ» عراقي استعداده لدفع مبلغ مفتوح، مقابل الحصول على خاتمه الأرجواني، الذي ألبسه إيّاه الأمين العام لـ«حزب الله»، السيد حسن نصر الله، في آخر لقاءٍ جمعه به قبل خمس سنوات من اليوم.
هدأت الرأس أخيراً، بعدما فكّرت ودرّبت وحلمت وجاهدت، وودّعت العشرات من الأحبة والأصدقاء، الذين لم يكن آخرهم شقيق روحه وابن أخيه الشهيد رماح. رفع الحسني سبّابته أخيراً، بينما كان جنوده يعملون بمقتضى إشارته، حتى بعد استشهاده عصر الـ12 من أيار، عندما أمطروا غرف الجنود على الحافة الشرقية للقطاع، بمئات قذائف الهاون والصواريخ المضادّة للدروع.