بينما تنشغل ردود الفعل الفلسطينية والإقليمية والدولية باستعراضات إيتمار بن غفير الاستفزازية في المسجد الأقصى، يواصل شريكه في تيّار «الصهيونية الدينية»، بتسلئيل سموتريتش، بهدوء، تمرير مخطّطات استيطانية كبرى في الأراضي المحتلّة، سيكون من شأنها، في حال، تحقّقها، فرض أمر واقع شديد الخطورة سيعسر تجاوزه لاحقاً. وعلى رغم أن جانباً من تلك الاستفزازات قد يكون مرتبطاً بالأزمة الداخلية التي يعيشها الائتلاف الحاكم، إّلا أن ما يجري يؤشّر إلى استشعار الاحتلال مقداراً أكبر من «القدرة» و«الثقة بالنفس»، يستوجب مواجهته ولو بخطوات مؤجّلة، حتى لا يشكّل إغراءً للعدو وحلفائه بإمكانية البناء عليه، والتأسيس لهجمة أكثر شراسةً على الفلسطينيين وأراضيهم ومقدّساتهم
يواصل وزير «الأمن القومي» الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، استفزازاته في الحرم القدسي، تحت رعاية قوات الاحتلال، التي يبدو أنها باتت «أكثر اطمئناناً» عقب المواجهة العسكرية الأخيرة مع حركة «الجهاد الإسلامي». على أن هذه الاستفزازت لا تعدو كونها ذات طابع تكتيكي، ربّما تستهدف التعتيم على إجراءات تهويدية أكثر خطورة، يراد أن تطال أماكن كان العدو، حتى الأمس القريب، يخشى المساس بها خشية ردّة الفعل الفلسطينية، وتبعاً لها الإقليمية والدولية. فهل انتهت مرحلة الحذر لتحلّ مكانها مرحلة المجازفات؟ أم أن شيئاً جديداً، فعلياً، لا يحدث حتى الآن، وإن كان ما يجري جزءاً من مسار بدأت مقدّماته منذ زمن لتغيير الوضع الراهن في المسجد الأقصى، وتثبيت آخر مماثل لما بات يَحكم الحرم الإبراهيمي في الخليل؟ ولعلّ ممّا يضاعف من حراجة تلك الأسئلة و«إلحاحيّتها»، إلى جانب الإجراءات والقوانين الجديدة التي أقرّتها حكومة الاحتلال، الجهد الحثيث المبذول من قِبَل وزارة المالية التي يسيطر عليها المستوطنون ووجوه «الصهيونية الدينية» - شأنها شأن مؤسّسات وكيانات أخرى ترعى الاستيطان، سواء في القدس أو في غيرها من المناطق المحتلّة في الضفة الغربية - من أجل تكريس أمر واقع جديد.
الأكيد أن ما يقوم به وجوه التيّار الفاشي في إسرائيل، وعلى رأسهم بن غفير، يستهدف تظهير الحقد والعنصرية بأوضح صورهما، ورفع أسهمه لدى جمهوره، الذي لم يَعُد حتى لليمينية مكان معتدّ به في وعيه، بل تجاوزها إلى الفاشية شبه المطلقة. على أن ما يميّز بن غفير، الذي اعتاد دخول وقيادة مجموعات المقتحمين للحرم، عن غيره من أقطاب الحركة الاستيطانية، أنه أكثر همجية وشعبوية، ولا يوازن كثيراً بين أفعاله وردّات الفعل عليها، ويقصر عن رؤية عواقب هذه الأخيرة، كما يغلّب التوجّه الاستيطاني على أيّ شيء آخر، وإنْ استتبع أثماناً في الطريق إلى استيطان كامل فلسطين. قد يرى البعض، هنا، عن حسن نيّة أو سوء نية، أن بن غفير لا يجب أن يواجَه بردود كبرى حتى لا تتعزّز مكانته وجدوى أفعاله، لكن هذه الرؤية تتعامى عن حقيقة أن كلّ فعل اعتدائي، وإنْ كان بسيطاً ولا يؤدّي إلى نتائج فورية، إنّما من شأنه أن يؤسّس لاعتداءات أكثر إيذاءً للقضية الفلسطينية ولمقدّسات الفلسطينيين، بما لا يعود معه من الممكن جبر الضرر.
في مقابل بن غفير، يَبرز رئيس حزب «الصهيونية الدينية»، وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، وهو الوجه الأكثر «عقلانية وجدّية»، وخطورةً أيضاً، في التيّار الاستيطاني. وإذ تتركّز معظم ردود الفعل على الاستفزازات، سواء ممّا تبقّى من كيانات يسارية داخل إسرائيل أو من الساحتَين الفلسطينية والإقليمية أو من المستوى العالمي، على ما يقوم به بن غفير، فإن الفعل الجادّ والحازم والأكثر إيذاءً إنّما هو لسموتريتش، ليس بوصفه وزيراً للمالية يتحكّم بـ«حنفية المال» فحسب، بل وأيضاً بوصفه متحكّماً بمؤسّسات وكيانات مسؤولة عن الاستيطان. هكذا، وفيما ينشغل العالم باستعراضات وزير «الأمن القومي»، يمرّر سموريتش الكثير من القرارات الإحلالية، والتي لا تقتصر على «تشريع» بؤر استيطانية سيكون على الحكومات اللاحقة التعامل معها بوصفها أمراً واقعاً، بل عبر المبادرات الواسعة لمصادرة الأراضي الفلسطينية التي يتعذّر الاستيطان الفوري فيها، إضافة إلى إعطاء أفضليات وحوافز تشجّع الإسرائيليين على السكن في الضفة الغربية.
الموجة الأخيرة من الاستفزاز تبدو مرتبطة، أيضاً، بالأزمة الداخلية التي يعيشها الائتلاف الحاكم


على أن الموجة الأخيرة من الاستفزاز تبدو مرتبطة، أيضاً، بالأزمة الداخلية التي يعيشها الائتلاف الحاكم. إذ إن بعض أطرافه، وعلى رأسهم حزب «القوة اليهودية» بزعامة بن غفير وحزب «أغودات يسرائيل»، يطالبون بتلقّي عطاءات مالية من الخزينة الإسرائيلية قبل التصويت على موازنة الدولة، وهو ما يرفضه بنيامين نتنياهو إلى الآن، محذّراً من أن الاستجابة لتلك المطالب تُعدّ بمثابة انتحار حكومي، سيؤدّي في نهاية المطاف إلى التوجّه إلى انتخابات مبكرة، وبالتالي احتمال خسارة اليمين المتطرّف واليمين الفاشي كلّ ما كسباه في الانتخابات الأخيرة. وإذ يدرك بن غفير أن ما يطالب به من أموال طائلة لوزارته والمؤسّسات التي يسيطر عليها تحت عنوان «تطوير النقب والجليل» (والتطوير هنا هو عملية التهويد والتضييق على الفلسطينيين)، إنّما تتعذّر تلبيته، شأنه شأن مطالب الأحزاب «الحريدية» التي تهدّد بدورها بفرط عقد الحكومة، فهو لا يجد بدّاً من محاولة التعويض، وترميم صورة اقتداره وجدّيته في تنفيذ تعهّداته التي ساقها قبيل تولّيه منصبه الوزاري، وذلك عبر تحرّكات استعراضية تبدو أقرب إلى دعاية انتخابية مسبقة، تتيح له التفوّق مجدّداً في حال إجراء انتخابات جديدة.
إزاء ذلك، يمكن تسجيل الآتي:
أوّلاً: لم يلقَ بن غفير أيّ معارضة من المؤسّسة الأمنية لاستفزازاته الأخيرة، وهو ما يمكن إرجاعه إلى أن المواجهة العسكرية الأخيرة في قطاع غزة أدّت إلى انكفاء طرفَيها، ولربّما «الجهاد» أكثر، عن التسبّب بمواجهات عسكرية على المديات الفورية. ومع ذلك، يعدّ السماح لوزير «الأمن القومي» بالعربدة في الأقصى، مؤشّراً إلى جرأة معتدّ بها لدى تلك المؤسّسة، واستعدادها لمخاطرة مدروسة نسبياً في مواجهة الفلسطينيين، وارتفاع «ثقتها بنفسها» في أعقاب المواجهة الأحدث.
ثانياً: لا يحجب ما تَقدّم حقيقة أن الاستفزازات الأخيرة ظلّت تكتيكية الطابع، أي أنها لم تكن لتستدعي ردّة فعل كبيرة من شأنها التسبّب بمواجهات. ولكن جولة القتال المنتهية للتوّ أرست قواعد اشتباك ما دون «الأفعال الاستراتيجية»، تسمح للطرفَين، مع مجازفة بمستوى ما، بالتحرّك من دون استجلاب ردود فعل، وهو ما يمتهن بن غفير استغلاله جيّداً وإلى أقصاه، وفقاً وخدمة لأجندته.
ثالثاً: قد يكون أقصى ما يتطلّع إليه بن غفير، راهناً، هو مقطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي يُظهر أنه فاشي بامتياز. إلّا أن ذلك لا ينفي أن أيّ نتيجة يمكن أن تتحقّق على يد هذا الفاشي، ستكون لبنة أولى على طريق اتّخاذ خطوات أكثر إيذاءً للحرم، مِن مثل رفع الأعلام الإسرائيلية داخله، والصلاة في باحاته، والتساوي المكاني والزماني مع الفلسطينيين فيه، ومن ثمّ السيطرة الكاملة عليه، تمهيداً، في مراحل متقدّمة، لوضع الحجر الأساس لـ«الهيكل الثالث». ومن هنا، وبالنظر إلى أن إسرائيل، مهما كانت هويّة الحاكم فيها، تحترف البناء على الأمر الواقع، فإن تلك التجاوزات، إن تكرّرت وطُنّشت، ستدفع دولة الاحتلال إلى التأسيس عليها، ولربّما تجرّ يهوداً، أفراداً وجماعات، إلى إعادة النظر في رؤيتهم الفقهية التي تحرّم الدخول إلى باحات الأقصى، طالما أن الأمر يمرّ بلا تداعيات.
ثالثاً: بدا لافتاً صدور إدانة أميركية لخطوات بن غفير، وأيضاً لقرار الحكومة الإسرائيلية السماح للمستوطنين بإرساء وجود دائم في نقطة «حومش» الاستيطانية. ويَظهر الموقف الأميركي متأرجحاً بين الرفض والقبول، ربطاً بالتداعيات المحتملة: فإنْ جرّ الاستفزاز ردّة فعل فلسطينية وازنة، ومن ثمّ مواجهة، وخربطَ الهدوء الذي تطالب به واشنطن في المنطقة، فستكون الولايات المتحدة أكثر شدّة وصلابة في الضغط على إسرائيل؛ أمّا في حال انتفاء ردّ الفعل، أو بقائه متواضعاً وهو المرجّح، فلن يكون لدى الأميركيين مانع من التعايش مع الوضع، ومن ثمّ القبول به، والتعامل مع أيّ ردّة فعل فلسطينية سلبية عليه بوصفها خرقاً للهدوء.