خلّف العدوان الإسرائيلي على قطاع أكثر من مليوني طن من ركام المنشآت المدمرة، ما بين منازل ومصانع ومواقع تابعة للحكومة، عملت وزارة الأشغال، التابعة لرام الله، على إزالة 95% منها، وبينها ما يزيد على 500 منشأة كانت آيلة للسقوط. تنوّعت أساليب التصرف بركام الدمار، جزءٌ منها ذهب إلى ما يزيد على 100 كسارة تعمل في القطاع. ملّاك هذه الكسارات يتنافسون في ما بينهم ضمن مناقصات للحصول على الركام، ثم تحويله إلى «حصمة» يستخدمونها غالباً للاستعاضة بها عن مواد البناء التي تمنع إسرائيل دخولها بصورة طبيعية عبر معبر «كرم أبو سالم»، منذ سنوات.
بإزالة 95% من الركام باتت المرحلة الأولى والصعبة من الإعمار منتهية
أبو محمد عويضة (45 عاماً) يُقدر إنتاجية كسارته اليومية بأنها تراوح ما بين 20 ــ 50 طناً من الحصمة، تُجمع وتخلط مع الإسمنت الذي يحصلون عليه بصورة مقنّنة من وزراة الاقتصاد أو يشترونه من التجار والمواطنين الذين يبعون الإسمنت الخاص بهم. بعد ذلك يجري الخلط للحصول على «إسمنت مسلح» صالح للبناء.
الأمر ليس هيّناً على أصحاب الكسارات كما يقول عويضة، لأن عملهم يخضع لمعايير حددتها وزارة الأشغال مسبقاً، ومنها استثناء ركام المباني التي تكون قد تفاعلت مع المناخ الجوي وفقدت قدرتها على التماسك مجدداً، وهو ما يحرمهم استخدامها. بعبارة أخرى، إن الركام غير القابل للتحويل إلى «حصمة» (نسبته كبيرة وتقدر بما يزيد على 50% من إجمالية الركام)، وفق تقديرات مصادر من وزارة الأشغال، هو الجزء الآخر الذي يجري تصريفه عبر استخدامه في توسيع ميناء غزة (مراكب الصيادين) الموجود الآن، إضافة إلى إنشاء ميناء صغير وسط القطاع، وتحديداً على شاطئ بحر مدينة دير البلح.
«لا يمكن اعتبار توسيع الميناء تمهيداً لإقامة ميناء جاهز للاستيراد والتصدير، بل هو من أجل التخلص من الركام في المناطق المدمرة، وتهيئتها ضمن خطة هندسية لإعادة الإعمار وفق ما تحصل عليه كل من الأونروا أو الحكومة أو حتى المؤسسات المانحة مثل المؤسسات القطرية أو التركية أو السعودية»، يقول المهندس محمد عجور، وهو أحد المشرفين على مشاريع البناء في «وكالة غوث وتشغيل اللاجئين ــ الأونروا».
خلال جولة في الأحياء التي طاولها الدمار بصورة كبيرة في بعض مناطق غزة وباتت الآن شبه معمّرة، لم يعد يرى الزائر في هذه الأماكن بقايا الدمار. يقول بعض أصحاب المنازل المتضررة جزئياً إنهم أعادوا ترميم منازلهم عبر المساعدات التي حصلوا عليها من «الأونروا» أو «UNDP» أو وزارة الأشغال، وذلك منذ انتهاء الحرب في أغسطس 2014. حتى مع تذمر بعض المواطنين من غياب العدالة في تعويضهم عن أضرارهم، فإنهم يرون أنها تبقى أفضل من لا شيء أو المبيت في المدارس.
المواطن محمود أبو القمبز (52 عاماً) من حي الشجاعية، يقول مثلاً، إنه تقدم إلى «الأشغال» و«الأونروا» لتعويضه عن الأضرار التي لحقت بمنزله المكون من 5 طبقات، وقدّرتها الأولى بأضرار زادت على 25 ألف دولار أميركي، ولكنه يؤكد أنه لم يحصل إلا على خمسة آلاف فقط. ويضيف أبو القمبز: «شيء أفضل من لا شيء... استطعت أن أستصلح شقتين لي ولأبنائي المتزوجين وترميمهما والعيش فيهما حتى تصرف الأونروا للمتضررين جزئياً (أولوية الصرف كانت للمتضريين كلياً) فقد أستطيع استكمال إعمار ما دُمِّر».
في هذا الإطار، يقول وزير الأشغال العامة في حكومة الوفاق (يرأسها رامي الحمدالله)، مفيد الحساينة، إنّ «من الطبيعي أن تكون الخطوة التالية لما بعد إزالة الأنقاض إتمام إعادة الإعمار، وفق الخطة المتفق عليها مع الدول المانحة. هذا ما يحدث فعلياً على أرض الواقع في الوقت الحالي». ويحصي في حديث إلى «الأخبار»، إتمام إعمار 1465 وحدة سكنية بواقع 1000 وحدة سكنية بتمويل قطري، وهو المشرع «الذي وصلنا إلى نسبة 88% من إنجازه»، بجانب «إعادة إعمار برج الظافر الذي يحتوي على 50 وحدة سكنية بتمويل قطري أيضاً، إضافة إلى 200 وحدة سكنية بتمويل من البنك الألماني للتنمية KFW».
وأوضح الحساينة أن مشروعاً آخر يجري تنفيذه بالتنسيق مع «الأونروا» يشمل إعادة إعمار 1000 وحدة سكنية بدعم من «البنك الإسلامي للتنمية»، إضافة إلى إعمار 140 وحدة سكنية بالتنسيق مع «جمعية الرحمة»، ولكن هذه لأصحاب المنازل المهدمة عام 2009.
الجدير بالذكر أنه وُزِّعَت 1060 وحدة سكنية منتصف كانون الثاني الماضي ضمن مشروع مدينة حمد، ولكن الأهم الإشارة إلى أن الأمير الأب حمد بن خليفة هو من وضع الحجر الأساس لمدينته عقب زيارته قطاع غزة قبيل حرب 2012، ولاحقاً أدرج المشروع ضمن إعمار غزة في عهد نجله تميم، ما بعد حرب 2014، ولم يكن مشروعاً جديداً خاصاً بالحرب الأخيرة.
ثمة مشروع كويتي آخر من المقرر أن يبدأ الشهر الجاري، بعدما أعلن في وقت سابق تقديم منحة كويتية لإعادة إعمار قرابة ألفي وحدة سكنية، بقيمة 75 مليون دولار. ووفق المعلومات، فإن مكتباً استشارياً يدقق في الملفات الخاصة بالمستفيدين تمهيداً لاعتمادها من الجهة الممولة ثم تحويل الأموال. يقول الحساينة إنهم حصلوا على اعتماد إسرائيلي لدخول مواد البناء الخاصة بكل المستفيدين... «ما ينقص هو دخولها وبدء البناء فقط».
وإلى حين تحقق هذه المشاريع واكتمالها، لا تزال عشرة آلاف أسرة تنتظر الحصول على أموال أو شقق سكنية بدلاً من بيوتها التي دُمرت في الحرب. تقول «الأونروا» إنها دفعت بدل إيجارات لكل المتضررين كلياً حتى نهاية كانون الأول الماضي، وتؤكد على لسان المتحدث باسمها عدنان أبو حسنة، أنها لا تزال مستمرة بدفع الإيجارات المعتمد تمويلها على الدول المانحة.
يقول أبو حسنة: «اليوم بتنا على عتبة الإعمار. حصلنا على تمويل لتعمير 2000 وحدة سكنية، ونعمل على إعادة بناء 600 في الوقت الحالي. أُنجز بناء 43 منزلاً حتى الآن»، مستدركاً: «إذا ما استمر الوضع على ما هو عليه اليوم، فإننا نتحدث عن سنوات لحل أزمة الإعمار... نبذل قُصارانا لتوفير التمويل الذي ينهي معاناة المتضررين».
ووفق التقديرات، لم يحصل قطاع غزة على ثلث المبلغ المطلوب للإعمار، الذي عرض في مؤتمر القاهرة لإعادة إعمار غزة. يوضح أبو حسنة مثلاً أن «الأونروا» طلبت 724 مليون في ذلك المؤتمر، ولكن «لم نحصل إلا على 250 مليوناً حتى الآن». هذا النقص في التمويل وضع أكثر من 60 ألف أسرة لاجئة على قطار الانتظار لصرف بدل أضرار لحقت بمنازلهم.
من ناحية ثانية، ظهر أن البنية التحتية هي الأوفر حظاً من مشاريع الإعمار، نظراً إلى أنها لا تخضع لموافقة إسرائيلية مسبقة كما يجري التدقيق في بيانات المستفيدين وتفحص إن كانوا من «قوائم الإرهابيين» أو لا. وعملياً، أُصلحِت كل خطوط الكهرباء المتعطلة بمبلغ 33.4 مليون دولار، وذلك من إجمالي 58 مليوناً هي معدل قيمة الأضرار في هذا القطاع. كذلك أنشئت نحو 25 محطة لتحلية مياه، وأصلحت الشبكات الخاصة بالمياه، ضمن 22.3 مليون دولار من إجمالي 34.5 مليوناً هي قيمة الأضرار العامة في قطاع الماء.
أما بشأن الحكم المحلي والبلديات، فجرى فتح وإصلاح طرقات تعرضت للدمار، سجلت نسبة الإنجاز فيها 24% من قيمة الأضرار التي تقدر بـ88 مليون دولار وتشمل طرقاً ومباني ونفايات صلبة، فيما حظي القطاع الصحي بـ13.8 مليون دولار، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المؤسسات التعليمية (90% نسبة إنجاز)، وفق بيانات وزارة الأشغال.
إلى ذلك، لا تزال أسر فلسطينية تعيش في 2000 كرفان (بيت حديدي أو خشبي)، خاصة في الشجاعية (شرق القطاع)، وكذلك في بلدتي بيت لاهيا وبيت حانون (شمال)، وصولاً إلى بلدات الزنة وخزاعة وعبسان الكبيرة وعبسان الصغيرة، ومنطقة الشوكة (جنوب)، وكلهم يعيشون ضمن ظروف حياة أقل وصف فيها أنها غير آدمية، على خلاف من استأجروا أو استؤجرت لهم شقق سكنية مؤقتاً.